أوكرانيا وحلم «تشليح» المال للأوروبيين «مجنون يحكي..»!؟
مها سلطان:
مَنْ يصغي لوزير الخارجية الأوكراني دميتري كوليبا وهو يتحدث بثقة كيف أن بلاده ستتعلم كيفية «تشليح» الاتحاد الأوروبي الكثير جداً من الأموال بعد انضمامها إليه (كما سبق وفعلت بولندا في عام 2004) لا بد أن تنتابه موجة من الضحك، إذ يبدو أن أوكرانيا ما زالت تعيش في تسعينيات القرن الماضي عندما كان الاتحاد الأوروبي يُمثل بالفعل جنة اقتصادية لكل الدول (خارجه) التي تحلم بالانضمام إليه، سواء من أوروبا الشرقية، أم من دول الاتحاد السوفييتي السابق (الأوروبية) مثل ليتوانيا،أستونيا، لاتفيا… ومثل بولندا (في أوروبا الوسطى) التي قدمها كوليبا كمثال على نجاح عملية “تشليح” الأوروبيين الكثير من الأموال مقابل الانضمام.
الآن.. إما أن أوكرانيا تختبئ وراء إصبعها في محاولة فاشلة لرفع المعنويات المنهارة من جراء الهزائم الميدانية المتتالية وخسارتها المزيد من الأراضي لمصلحة روسيا، أو أن الأوروبيين ما زالوا يمارسون عليها عملية خداع ناجحة بأنهم قادرون على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى ما قبل 24 شباط الماضي عندما بدأت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا… وربما يكون الأوروبيون أنفسهم يمارسون الخداع على أنفسهم، إذ يعتقدون أن بإمكانهم فعل ذلك، أو أن الولايات المتحدة، حليفتهم، لابد أن تتدخل عسكرياً ضد روسيا في مرحلة ما، عندما تصبح كل أوروبا على المحك، على اعتبار أن الولايات المتحدة لا تستطيع خسارة قارة هي حليفة لها بالكامل، تقريباً.
مع ذلك، فإن من سمع تصريح كوليبا لا بد أن يتبادر إلى ذهنه سؤال يكاد يكون بدهياً وهو: كيف ستمارس أوكرانيا على الأوروبيين عملية” تشليح” أموال؟
سؤال لا نعتقد أن له جوابا، لأن أوكرانيا ببساطة لا تستطيع فعل ذلك.. لماذا؟
– أولاً، لأنه لا يمكن لأوكرانيا مقارنة حالها بحال بولندا، لا في الزمان ولا في المكان ولا في الظروف الإقليمية/الدولية. بولندا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بداية تسعينيات القرن الماضي، كانت مركز الاهتمام الأوروبي والأميركي لما كانت تمثله بالنسبة للاتحاد السوفييتي كموقع واقتصاد، ومكان شهد تأسيس «حلف وارسو 1955» حلف القطب السوفييتي المواجه لـ«حلف الناتو»، حلف الرأسمالية الأميركية/الأوروبية… كان بإمكان بولندا ممارسة كل أنواع الابتزاز ضد الأوروبيين مقابل أن ترضى بالانضمام إليهم وتنقلب على روسيا (التي خلفت الاتحاد السوفييتي) وكانت روسيا (ما بعد التفكك) أضعف من أن تواجه، فهي تحتاج وقتاً لكي تستعيد قواها وتعيد إدارة البوصلة العالمية باتجاه عالم متعدد الأقطاب تكون فيه قطباً رئيسياً كامل القوة بمواجهة الخصوم والأعداء وعلى رأسهم الأقربون، أي الأوروبيين.
*** متى تنتهي «الحرب»؟
أوكرانيا اليوم، هي في المرحلة الروسية الأقوى، فيما الاتحاد الأوروبي في المرحلة الأضعف، وعلى كل المستويات، داخلياً وخارجياً، مفكك ومستنزف، ويعاني صدمات اقتصادية متتالية (ومنها صدمة أوكرانيا نفسها وقد تكون قاصمة). هو في الواقع، أقرب إلى أن يعلن حالة إفلاس، فكيف بإمكانه مَدّ أوكرانيا بالأموال.. حتى عندما يتحدث عن إعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب، فهو يتجنب إطلاق الوعود والأرقام، وكل تصريحاته بخصوص ذلك بلا معنى.. فإذا كان هذا حال الأوروبيين فكيف يمكن لأوكرانيا أن تتحدث عن أموال أوروبية، لن تحصل عليها لا بالرضا ولا بالتشليح.. لأن الأوروبيين ببساطة لم يعودوا يمتلكونها؟
ثم متى ستنتهي الحرب حتى يكون بإمكان أوكرانيا التفكير بكيفية الاستحصال على أموال الأوروبيين أو يكون بإمكان هؤلاء الحديث عن إعادة إعمار أوكرانيا؟.
عندما تنتهي الحرب قد لا يكون هناك اتحاد أوروبي ولا من يحزنون.. ليس فقط بسبب ما ستتطور إليه مراحلها (ميدانياً واقتصادياً) أو نتائجها.. هناك اتحاد أوروبي آخر يوشك على الظهور، اتحاد أوروبي/شرقي، أي من دول أوروبا الشرقية التي باتت في الأعوام الأخيرة في قلب التركيز الأميركي (إلى جانب محور آسيوي مواز في منطقة المحيطين الهادئ والهندي) لناحية استقطابها في المرحلة العالمية المقبلة، بمواجهة الخصوم الاستراتيجيين (الصين، روسيا، الهند، إيران…وغيرها).. هذا الاتحاد الأوروبي الشرقي تعمل عليه الولايات المتحدة منذ قرار انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي (استفتاء عام 2015) ودخوله حيز التنفيذ عام 2020.. هذا الاتحاد سيكون بزعامة بريطانيا طبعاً وباتفاق كامل مع الولايات المتحدة.
**** تقارير اقتصادية قاتمة
ثالثاً، لنورد آخر ما جاء في التقارير الاقتصادية حول حال أوروبا بجناحيها/شرقي وغربي/ وحال أوكرانيا:
– حسب الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي فإن عملية إعادة الإعمار ستكلف 750 مليار دولار على الأقل. هذا الرقم كان قبل أسبوع، وقبل أن يخرج مستشاره الاقتصادي أوليغ اوستينكو ليقول إن أوكرانيا تحتاج تريليوني دولار لاستعادة الاقتصاد والبنية التحتية، أي ما يعادل خمسة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي.
– البنك الدولي توقع في أحدث تقاريره قبل أسبوع تراجع الناتج الاقتصادي الأوكراني إلى النصف تقريباً (45.1%) بزيادة 11% تقريباً عما كان توقعه صندوق النقد الدولي (وكان 35%) و20 بالمئة زيادة عن توقعات البنك الأوروبي (وكان 20%).
– كما توقع تقرير البنك الدولي انكماشاً بنسبة 4,1% في الناتج المحلي الإجمالي هذا العام في كل البلدان الناشئة والنامية في أوروبا وآسيا الوسطى، بينما كان يتوقع نمواً بنسبة 3% قبل الحرب. وهذه النسبة أسوأ بكثير من الركود الناجم عن وباء كورونا (وكان 1,9 بالمئة).
يشار إلى أن البنك الدولي قدم توقعاته هذه على «افتراض أن الحرب ستستمر بضعة أشهر أخرى فقط».. ولنا هنا أن نتخيل قتامة التوقعات في حال استمرارها حتى نهاية العام أو لعام آخر أو اثنين أو أكثر ربما.
– تعد حرب أوكرانيا الصدمة الاقتصادية الثالثة (غير المتكافئة) التي يشهدها الاتحاد الأوروبي خلال العقدين الماضيين، بعد أزمة الرهون العقارية (في الولايات المتحدة) 2008-2009 ووصلت أسوأ تداعياتها إلى منطقة اليورو، ثم وباء كورونا (والصدمة غير المتكافئة هي التغير المفاجئ في الظروف الاقتصادية التي تؤثر في بعض دول الاتحاد الأوروبي أكثر من غيرها.. كالدول المجاورة لكل من أوكرانيا وروسيا والدول التي لا تستطيع الاستغناء عن الغاز الروسي).. وهذا يحيلنا تلقائياً إلى أزمة الطاقة، حيث يعلو صراخ الأوروبيين بأن اتحادهم بكامل دوله يقف عاجزاً أمامها، وهي التي ستتحول إلى أزمات متزامنة، غلاء وبرد وفقر وجوع، خلال الشتاء القادم، لن تكفي كل الأموال المتبقية في خزائن الأوروبيين لتجاوزها (اسعار الغاز في أوروبا وصلت خلال الأسبوع الماضي إلى 1800 دولار لكل ألف متر، للمرة الأولى منذ بداية الحرب في 24 شباط الماضي).
**** لا حلفاء ولا أصدقاء
كل ما سبق، وغيره كثير.. لا يمتلك الأوروبيون معه أي حلول، وهم غير مسنودين لا من حلفاء ولا من أصدقاء، لا من جوار، ولا من إقليم، ولا من تكتل.. حتى على مستوى قبول أوكراينا في عضوية الاتحاد الإوروبي فإن هذا القبول في حد ذاته سيكون المرحلة الأخيرة في انهيار الاقتصاد الأوروبي حسب كبار المحللين الاقتصاديين/أوروبيين وأميركيين/.. إذاً كيف يستقيم أن أوكرانيا ما زالت تمني النفس، وما زالت تتحدث عن أموال (كثيرة جداً) ستحصل عليها من الأوروبيين، هذ أشبه بالمثل القائل: «مجنون يحكي…».
ختاماً، إذا كان مفروغاً منه أن كلاً من أوكرانيا والاتحاد الأوروبي سيبقيان على مواقفهما، فإن العملية الروسية في أوكرانيا ستستمر وبما لا قِبل لهما بتحمل تداعياتها ونتائجها.. وعليه ربما كان من الأجدى للطرفين، أوكرانيا والأوروبيين، أن يتجالسا ويتصارحا.. ويتصالحا مع مسألة أن العالم اليوم في العشرية الثالثة من القرن الـ21 وليس في تسعينيات القرن الماضي.