نزار عبشي مُفتشاً عن الوطن الساكن عمق وجدان القصيدة

راوية زاهر

“الوطن في الشعر العربي المعاصر في سورية” للدكتور نزار عبشي الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، مجلدٌ ضخمٌ مكوّن من ثلاثة أبواب، ينحدرُ عن كل باب العديد من الفصول، ويعد مرجعاً لرواد الفكر والنقد المرتبط بالوطن والمكان والغربة والانكسارات والانتصار..

نقف بداية مع الوطن في الشعر العربي.. مفهومه ودلالته مع مقاربة في دلالات المصطلح وأبعاده، فالوطن هو الأرض التي يسكنها الإنسان، ينمو فيها ويتغلغل في أعماقه هواؤها.. وإذا كان الشعراء أقوى إحساساً، وأصدق شعوراً فهم القادرون على الإحاطة بهذا الحب وتصويره بأسمى المعاني في السلم والحرب.. فالوطن عميق الوجود ومرتبط بالإنسان منذ نشأته، فكان في الجاهلية مرتبطا بالقبيلة التي بعثت في نفس الجاهلي شعوراً بالانتماء إليها كمن يشعر بانتمائه إلى وطن، وعندما كان يرحل عنها بسبب ظروف تتعلق بالمرعى والحروب وعوامل الطبيعة كان يبقى في حنين دائم، وما ظاهرة الوقوف على الأطلال عند شعراء الجاهلية إلا دلالة عميقة على ارتباطها بالجماعة البشرية، ويبقى الطلل تعبيرا عن شعور الجماعة بالحرمان من الوطن وحنينا إلى الاستقرار والمقام الثابت.. وقد قال النابغة الذبياني:

“يا دار ميّة بالعلياء فالسند

أقوت، وطال عليها سالف الأمد.”

ويجمع بعض النقاد من الوجهة النفسية على المشهد الجنائزي المُتبدي في ظاهرة الطلل، وقد عاش امرؤ القيس الغربة مراراً وعبرّ عن حزنه الدائم وكانت غربته مكانية وإنسانية عندما قصد بلاد الروم فوجد نفسه غريب الوجه واليد واللسان. وخير مثال عن الغربة في العصر الأموي والتعلق بالديار كانت قصة ميسون بنت بحدل زوج معاوية التي غادرت القصور وآثرت عليها ديار أهلها في الفلوات، وقالت أبيات قصيدتها المشهورة التي مطلعها:

“لبيتٍ تخفقُ الأرواح فيه

أحبّ إليّ من قصرٍ منيف.”

وعانى أبو فراس الحمداني مرارة الغربة في سجن الروم، وعاش حنيناً موجعاً لأهله وأحبته.. وكذلك الشريف الرضي في شوقه لأرض الحجاز وعرفت أشعاره بالحجازيات.

ولا يغيب عنا حنين شعراء الأندلس وأسباب اغترابهم بين الشرق والغرب واغترابهم الأكبر بعد سقوط مدن الأندلس دفعة واحدة، فبكاها الشاعر نفح الطيب وذكر اسم مدنها وسماتها، فقال:

“فاسأل بلنسية ما شأن مرسية

وأين شاطبةٌ أم أين جيّانُ”

ويتوضح في العصر الحديث معنى الوطن، وتحددت معالم الوطنية منذ بدأ الظلم على البلاد العربية.. فسكن الوطن وجدان الشعراء، فنفي الكثير منهم، وذاقوا مرارة الغربة والحنين وجراح الشيخوخة.. كما حصل مع الشاعر محمود سامي البارودي عندما نفاه الإنكليز إلى جزيرة (سرنديب):

“وكيف أنسى دياراً قد تركت بها

أهلاً كراماً لهم ودّي وإشفاقي”.

وكذلك الشاعر خير الدين الزركلي الذي تجرّع مرارة النفي والتغريب بعد موقعة ميسلون، يقول شاكياً باكياً أهله ووطنه:

“العين بعد فراقها الوطنا

لا ساكناً ألفت ولا سكنا”

والغربة الكبرى كانت في اقتلاع مليون عربي من أرض فلسطين، وقد كانت هذه القضية من أخطر ما واجه الإنسان العربي في القرن الماضي، فكانت واسعة الأبعاد وعميقة الأثر بسبب ما حملته لأهلها من شتات المنافي والغربة والتآمر، وقد عبّر الشاعر عبد الكريم الكرمي عن حجم المعاناة وقسوة ذلك المنفى:

“فلسطين الحبيبة كيف أغفو

وفي عينيّ أطياف العذاب”.

وقد كان لشعر المهجر صدى ملأ الأرحاب شوقاً وحنيناً لأرض الوطن وملاعب الطفولة، كما عبر جورج صيدح عن حنينه إلى دمشق:

“دمشق إن أشجت الأوطان مغترباً

إني لأوجع من أشجته أوطان”.

والشعر كما قال عمر الدقاق “مرآة صافية تنعكس على وجهها الصقيل صور نابضة من حياة الأمة وكفاحها ونضالها، وأن ما فاضت به قرائح الشعراء ليس في جوهره إلا روح الأمة وسفر نضالها”، وما سر هذا الفيض إلا العلاقة الحميمة بين الإنسان ووطنه، وقد رافقت الكلمة الهادفة الصادقة الرصاصة الماضية الفتاكة لتحرير الوطن والأمة المستعبدة وتوحيد الوطن الممزق.. وهكذا كان الشعر القومي الوجداني أدل حقيقة على الوجدان الجماعي وتصوير اتجاهات الشعوب العربية ومنازعها، ومن أكثر فواحع هذه الأمة كانت فاجعة ميسلون فقال الزركلي واصفاً هول ما حدث:

“الله للحدثان كيف تكيدُ

بردى يغيضُ وقاسيون يميدُ”.

وكذلك مرثية خليل مردم بك ليوسف العظمة:

“أيوسف والضحايا اليوم كثر

ليهنك كنت أول من بداها”.

فالشعر الحديث أعلن التمرد والاحتجاج ونجح في تصوير الاضطهاد والظلم.. وقد اتسعت ساحة الشعر القومي كما في شعر بدوي الجبل وسليمان العيسى ومحمد البزم وشفيق جبري، وقد جاء الاستقلال وعاش الشعراء نشوته، فقال شفيق جبري واصفاً فرحته:

“حلمٌ على جنبات الشام أم عيدُ

لا الهم هم ولا التسهيد تسهيدُ”.

لتعود بوجهها الكالح الأيام السود متمثلاً بالنكبة وتليها النكسة ومراراتها.. فعاشها الشاعر العربي خيبة موجعة وعبّر عنها بقصائد صادقة كما جاء في شعر سليمان العيسى الذي ينفح بريح القومية، وقد كان له رؤية عميقة وبعيدة حين قال:

 

“لو كان في كفي قيادة القدر

غسلت جفني أمتي بالشرر

ألهبت بالثورة حتى الحجر” .

وللماغوط موقفه من قضايا التحرر والوحدة، وقد مرّ بمرحلة التمرد على الواقع فكان من أكثر الشعراء المعاصرين تعبيراً عن روح الإنسان الحديث، وصورة الواقع في شعره صورة فاجعة للانكسارات والاستلاب والخوف والقدرة على رسم الصورة الهزلية لأوضاع فاجعة بعد النكسة:

“إن أي فلاح عجوز،

يروي لك بيتين من العتابا

كلَّ تاريخ الشرق،

وهو يدرج لفافته أمام خيمته”.

وما لبث بعد كل هذا الانكسار والذل والضياع إلا أن أشرق (تشرين) ليبدل الملامح والنفوس، وتغيرت نظرة الشعراء للواقع، ويصير تشرين سيد الشهور، وتعود الفرحة عرساً بعد أن كان نزار وأبناء جيله على حد تعبيره (منخورين كالنعال) بعد النكسة:

“جاء تشرين.. إن وجهك أحلى

بكثيرٍ ما سرّه تشرين

كيف صارت سنابل القمح أعلى

كيف صارت عيناك بيت السنونو.”.

وقد أغفلنا الكثير من الشعر الجميل لشعراء عظام حملوا هم أوطانهم وعاشوا أفراحه وأتراحه، واللافت كان اعتماد المؤلف لغة علمية رصينة شائقة ومنهجاً تحليلياً كاشفاً لتجليات الجمال ومضمراته في النص الشعري.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار