لبنان أو الحل القريب المُستبعد

إدريس هاني:

مرّة أخرى تبدو المعضلة اللبنانية بالغة التعقيد، والسياسة هناك تمارس، لكنها تمارس في شكلها الأدنى الذي تتطلّبه شروط وبنية الدّولة التي تعاني إشكالية التّأسيس. في لبنان يوجد علماء السياسة – أستثني سماسرة السياسة والجاهلين بها وإن تشبثوا بممارستها كما يحصل في بلداننا جميعاً- لكن على أي أرضية وشروط سوسيو- تاريخية يمكن للسياسة أن تقوم؟ ألا نظلم لبنان حين نطلب من ساسته أن يكونوا ملائكة؟ أين يتجلّى البُعد الموضوعي لدراسة حالة لبنان السياسية الذي حوصر جيوسياسياً، وحوصر معه حلفاؤه، بينما كان متوقّعاً أنّ كل لاعب في لبنان لا بدّ أن يحلب حلباً منه.

حتى الآن تبدو السياسة لعبة مصالح في لبنان، وأن تكون صاحب مبدأ، هذا يفرض مسؤولية مضاعفة من جهتين:

من الجهة الأولى، لأنّ المبدئية في السياسة إشكالية تعرفها البيئات التي توجد فيها السياسة والازدهار أيضاً، فكيف بدولة ثالثية أوّلاً، عربية ثانياً، شرق أوسطية ثالثاً، أسيرة دستورياً منذ التأسيس للطائفية.

من جهة ثانياً، إنّ المبدئية في لبنان الواقع في منطقة تقاطع إقليمي ودولي ستكون دائماً نقيضاً للسياسة.

ترنح لبنان، قضية لا غرابة فيها حين ندرس الأسس التي خلّفها الانتداب ضمن صفقة ولعبة دولية، انتهت بتكريس نظام يقوم على المحاصصة. ويومها كان لبنان على فوهة بركان، لأنّ نظام المحاصصة ظلّ ثابتاً غير آبه بالتحولات الديموغرافية والاجتماعية، بل منذ البداية قام على مفهوم المواطنة المنقوصة، مواطنة غير مباشرة، مواطنة لا تستند في مشروعيتها إلى مفهوم الدولة، بل ظلت الدولة مطلباً مستحيلاً، لأنّ هذا النظام انتفخ وحبلَ وأنتج كلّ مآسي لبنان التي لن تنحل ما دام ليس هناك دولة.

قدر لبنان أن يبحث عن حلول آنية، أن يعلّق مصير شعب وحاجياته على انتخابات قائمة على توافقات هشّة. ليس ، ذلك لأنّ هناك من يشغلهم أو يبتزهم من خلال نزيف التفكير في اليومي والآني، وهذه دائرة مفرغة، من شأنها أن تعيد إنتاج الأزمة باستمرار، وتستبعد سؤال الدولة.

في يد لبنان عامل قوة وهو إرادة الشعب في العيش المشترك والإيمان العميق بلبنان، لكن ثمة العنصر الواقعي والمكسب الأكبر للشرعية هو المقاومة. ففي تاريخ كل الدول، كانت المقاومة هي أساس الشرعية، ومن أدار الكفاح الوطني هو من يحدد أفقاً لقيام الدولة. النقاش الخاطئ اليوم هو البحث عن شرعية خارج المقاومة كمكسب. ولا يمكن تكرار الخطأ التاريخي حين تضع المقاومة سلاحها في منتصف الطريق. تجريد لبنان من سلاح مقاومته هو محاولة للالتفاف على المطلب التاريخي لقيام دولة مستقلة ذات سيادة. قضية المقاومة لا تقف عند حماية التراب الوطني اللبناني من التهديد والاحتلال، بل هي تحمل عنوان وأفق قيام دولة كاملة الأركان، وأنّ المقاومة كلما أصبحت أقوى كان الأفق المتوقع لقيام الدولة أكبر، ليبقى السؤال الأساسي هو: كيف يوجه النّقاش إلى استغلال مكسب المقاومة لمصلحة دولة قوية؟ غير أنّ الذُّهان الغالب اليوم على النقاش، هو تحميل المقاومة كل تبعات الانهيار ، ووجود حرس محلي وإقليمي ودولي لنظام المحاصصة، ما جعل التوافق في شروطه التناقضية هو من يرهن مصير شعب ودولة.

مشكلة لبنان الاستراتيجية لا تكمن في دورات أزموية، ولا في المصارف، ولا في الأجور والأسعار والإدارة، بل هي مشكلة الدولة: وإزاء هذا الاستنزاف في رصد الحلول الممكنة/المستحيلة لحاجيات لبنان الاجتماعية، يقع ابتزاز جيواستراتيجي. لم يعد الحجاج السياسي مهمّاً، لسبب بسيط، لكونه بدهياً، فتسليم سلاح المقاومة يقتضي وجود دولة بالمعايير التي تضمن احتواء سلاح مقاوم، ففي غياب دولة قوية، ومع وجود فساد غير معنية لا بالدولة ولا المجتمع يصبح تسليم سلاح الكفاح جريمة تاريخية. سلاح المقاومة حمى لبنان من أخطر المنعطفات التي كادت تجرف الدولة والمجتمع معاً. المقاربة الواقعية والموضوعية والسياسية للمقاومة من شأنها أن تخفف التصعيد في نقاش انسدادي يستنزف الوعي لمصلحة ربح الوقت. قد يكون من الأسهل توقّع اجتثاث عصائب الفساد من لبنان، لكن كيف يمكن توقع اجتثاث مقاومة باتت عنصراً ثابتاً في معادلة دولية، وهي أهم مكسب للبنان والعرب ولنظام عالمي جديد؟ كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار