صابر فلحوط والمشي على شفار العروبة حافي القدمين
راوية زاهر:
” الشعر في الميدان” مجموعة شعرية للشاعر صابر فلحوط، الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب ٢٠٢٢م، والتي كان لها سابقاتها، فقد أصدر رئيس اتحاد الصحفيين سابقاً، الكثير من المجموعات الشعرية الغائرة في عمق القضايا الوطنية والقومية والمقاومة كمشروع فكري يؤمن به.. و(الشعر في الميدان)؛ اختاره عنواناً لهذه المجموعة، ولا يسعنا من هذا العنوان إلّا أن نتتبع مسيرة الشعر وقد أسرج الشاعر ظهر قصائده وحملّها قضايا هذه الأمة، يكبو تارة ويستنفر شموخه تارات، مستحضراً حوادث التاريخ بتفاصيلها، راكباً صهوة المجد مذكراً بأمجاد الأوائل داعياً للثورة في وجه أعداء الأمة، رافضاً سلام الأعداء المزنر بالذل والهوان، متمسكاً بعرى العروبة وما هي بنظره غير العروة الوثقى لأزرار هذه الأمة، مؤمناً بها على مرّ التاريخ سبيلاً لتحرير القدس والجولان واسترجاع الكرامة المنهوبة، فها هو للميدان فارسه:
“لن يترك الميدان فارسه
لا لم تزل لنسورها القمم
إن يكبُ عبر الساح مختضباً
فهديره البركان والحمم”.
وقد تكررت دعوة الشاعر إلى الثورة في وجه أعداء الأمة، وكذلك الوقوف في وجه بائعي الأرض والعرض في قصيدة تقاسيم على كمان الجراح:
“ألا اغضب يا ثرى الجولان واضرب
سماسرة القضية والجراح
لتلقى القدس بعد اليأس يسمو
بنصرٍ شامخ، ودمٍ قراحِ”.
وقد مضى في مسيرة شعره محاولاً شحذ سيف الماضي فعاود سرج أحصنة بني أمية لاستنهاض جيش تشرين:
“أميةُ فوق سرج الدهر ممتشق
سيف العروبة فالدنيا بقبضته
مضى يحلق يبني المجد متخذاً
زهر النجوم خلاخيلاً لمهرته”.
وقد توقف الدكتور فلحوط كثيراً عند مجازر الصهاينة في الجولان المحتل وقانا الجريحة في جنوب لبنان، وأطفالها الذين أهديت إليهم عناقيد الغضب فاستصرخ لوجعهم الكون النائم على الظلم والمجازر والدماء..
“قانا هنا، راحت،
تسرّحُ شعرها الفضيّ بالقاني،
من الأمشاط حيث اللون
معشوق النشامى
وتشدّ زنار اللهب”.
وكان للشاعر موقفه من السلام فرآه سلام العولمة، إذ استنكره ورأى فيه الذل وبيع القضية:
“قيل السلام، فقلنا، من مدامعنا
زيتونة السلم تستسقي وتبترد
وما سفحنا دماً إلّا لحفظ دمٍ
تزهو الحياة غداة السيف ينجرد”.
وقد عاد القهقرى إلى الماضي وفاض حديثاً عن زمن الانتصارات وكذلك زمن الانهزامات، من ميسلون إلى الجلاء إلى التصحيح ومروراً بتشرين الإباء وحروب الجنوب ومعارك العرب مع الأعداء والطغاة.. ودائماً يضرب بسيف العروبة الفتاك الذي لم يرَ سلاحاً أمضى منه في وجه أعداء الوطن.. وفي ترنيمة جميلة في تبادل الرسائل الشعرية بأسلوبٍ لطيف محبب بينه وبين الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري منادياً كل منهما الآخر بكنيته: أبا عمر وأبا الفرات، فقال الجواهري:
“أبا عمر، وإن قلّ السلام
سلام مثلما عبقت شآم..
ليرد عليه الشاعر بقصيدة عصماء..
أبا الفرات تحيتي ألم
حيثُ الحناجر كالجراح دمُ”.
التزم الشاعر بقضايا أمته، ما حدا به إلى استخدام لغة حماسية قوية، عالية النبرة تسودها قيم الفخر والعزة والتقدير للشهادة والشهيد والوقوف في وجه عشاق الدم والظلم وكذلك المستكينون.. تنوّع أسلوبه بين الخبر والإنشاء وخصوصاً أنه مال إلى تجميع قصص التاريخ شعراً ما يستدعي وقفة ما لدى المتلقي للتيقن مما يرد بهذه الكثافة الشعرية..
(أكرم بنا شعبا!) إنشاء، تعجب.. (لملم عن الصخر الشموخ) إنشاء أمر.. أما من أمثلة الخبر وهي كثيرة: صار للتاريخ منبراً يروي أساطير.. كما عجّت المجموعة بالصور والاستعارات والانزياحات والتناص والتضمين، ما يفتح أفق المتلقي ليجوب به الآفاق، مستنفراً الأحاسيس والمشاعر ومظهراً جمالية التصوير.
(الثواني ها هنا دهرٌ) تشبيه بيلغ، (ودم الأطفال أسراب سنونو) تشبيه بليغ إضافي، (نيوب الحقد) الحقد حيوان له أنياب استعارة مكنية، (نغسل الرايات من وحل المواجع) كناية عن الذل والقهر في زمن الاحتلال الفرنسي، والصورة الأجمل كانت هذه الصورة التي تجعلنا نعتلي ظهر المجاز بكل بهاء: (فعلى شفاه جراحنا شلت يد القدر الحرون)، أي قدر هذا الذي يشبهه الشاعر بمهر عنيد؟
مالت الألفاظ بمعجمها اللغوي إلى السمو والكبرياء والرفعة، قوية بمضامينها ووقع صوتها، بحروف الجهر التي تتناسب ونبرة الحماسة والدعوة المستمرة إلى الثورة: (الجبار، أشبال، رسوخ الجبال، أوتاد صخر، ساح النضال، الغضب)، كما لوحظ بقوة استخدام تقنية (التناص)، إذ تحيلنا بعض أبيات الشاعر إلى نصوص أخرى يشهد لها التاريخ، فتصبح قضيته أقرب إلى الذهن وأوسع في مدارك الفهم..
“من للشام إذا ريح
الطاغوت عوت
إلّا سيوفك -عمورية- النسب”.
عمورية التي استصرخت المعتصم العباسي، قصة عربية معروفة الجذر والتاريخ.. وأيضاً /جرح داحس والغبراء يمطرنا/.. حرب من أربعين عاماً تندى لها جباه العرب خجلاً، وكذلك لمسنا استخدامه الجميل والراقي للتضمين.
“ورحتَ تصادم الثقلين فرداً
كليل الناب مخضوب الجناح”
“ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح”.
هذا البيت للشاعر الأموي جرير ضمّنه الشاعر بالكامل في قصيدته ليخدم فكرته في مدح قومه العروبيين..
وفي النهاية.. وفي غفلة من هذا الزمان اضطر الشاعر في صرخة ينادينا رغم كل الظروف؛ ألا نكفر بالعروبة بعد أن أصيبت بالعقم، وبعد أن حوّلها أبناء الأمة ذاتهم إلى أشلاء..
يا سادتي
لا تكفروا، أرجوكم
بعروبةٍ مازال في
أشلائها بعض المروءات..