سوى أن الكاتب كان “يوقّع” كتابه قبل أن يدفع به إلى المطبعة، بات من الرائج أن يقام له حفلٌ “يوقّع” فيه ذات الكتاب، وشتان ما بينَ التوقيعين!
أحسب أن التوقيع الأولَ مجازيٌ لأنه يعني نهاية الكتاب بإنجازه أو أنه توقيع العقد بين الكاتب والناشر وهذا لا يهمُّ القارئ لأنه لن يطّلع على “العقد” ولن يرى شكلَ التوقيع حتى بالرسم الذي اختاره الكاتب لنفسه كما يختاره كلُّ امرئ يعرف الكتابة كبديلٍ للبصمة! أما التوقيع الذي يتم باحتفالية ووجود جمهور فشيء آخر، صنع تقاليدَه هذا العصرُ كشكلٍ من أشكال الترويج للكتب التي باتت تُطرح في الأسواق مثلَ الكثير من السّلع وتحتاج إلى تسويقٍ وترويجٍ لأن الكتاب في مراحله الأخيرة مكلفٌ بثمن الورق وتصميم الغلاف والإخراج والطبع ثم التدقيق اللغوي في طبعته الأولى والثانية! وبين الجمهور سيتحدث الكاتب قليلاً وكذلك الناشر ثم أحدُ من طالع الكتاب ليكتب فيه شهادة، وينفضُّ الجمع ليعود إلى التجمّع أمام طاولة التوقيع ليقتني نسخةً ممهورةً بتوقيع الكاتب، ولن ترضى دارُ النشر ولا الكاتب عن الكمية المبيعة في هذا الحفل لأنه أقلُّ من القليل وأكثرُ من حضر كان من أجل الحفل وليس من أجل الكتاب، وفي الواقع سيجري احتفالٌ ثانٍ من أجل كتابٍ آخر ويبقى الكتابُ الأول حيث هو في المستودع يعاني من مشكلة العزوف عن القراءة كما تصرّح بذلك إحصائياتٌ ومؤسساتٌ رسمية ومختصون!
من أجرى بالأصل عادة توقيع الكتاب في احتفالية؟ ربما دور نشر أوروبية في مجتمعات تتقن جيداً فنون التسويق عبر وسائلها واسعة الانتشار سواء بالمجلات المتخصصة أو بصفحات محجوزة للأدب في كبريات الصحف أو البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ونشر المعارك الفكرية التي تجري بين الأدباء وتغطية الجوائز والخلفيات التي كانت وراءها وهي بذلك تضع تحت عيون الجمهور أكثرَ من اسم، ممن فاز أو لم يفُز، ليبقى محطّ اهتمام! وإذ أستعرض في ذاكرتي، بآلية التداعي، أهمّ الكتب المقروءة عبر التاريخ أرى أنها راجت بسبب قيمتها الفكرية وسيرة حياتها الذاتية المدهشة كسيرة حياة الكاتب بحيث تخطّت كل الأزمنة وأمزجةِ القراء ومستوياتهم، مثل “أغاني الأصفهاني” التي أمضى في جمعها وتحريرها ما ينوف على اثنين وخمسين عاماً وكذلك رواية “البابا الأخضر” للروائي الغواتيمالي “ميغيل أنخل أستورياس” التي استغرق في كتابتها عشرين عاماً، علماً أن قيمة الكتاب لا تُحسب فقط بزمن إنجازه بل بأشياء أخرى تعرفها الثقافة الإنسانية العريقة!
تبقى حفلات توقيع الكتب الرائجة اليوم مثلَ رمي الحصاة في بحيرة، تحرك سطح الماء قليلاً ثم تهدأ إلى أن يأتي زمن آخر قد يحسب لها فعلاً وأثراً آخر!