رغم أن الناس في وسائل النقل العامة، يبدون من دون أدنى شك أشبه بالخيارات المصفوفة ضمن (قطرميز) مخلل، ويزيد التخليل خلخلةً طمع السائقين الذين لا يمانعون البتة لو تكدَّس المواطنون فوق بعضهم، ماداموا ينالون ربحاً أكبر، إلا أن لقاء حبيبين ضمن هذه المعمعة قادر على تحويل المشهد بالكامل إلى نقيضه، وتسكين آلام دوالي القدمين وانقراص الفقرات، وكأن ذلك بمثابة رشة سُكَّر على الموت العميم المُسيطر والضاغط على الروح.
وبالعكس من الطوابير على الأفران، و”المطاحشة” و”المدافشة” واللكع والنكع، فإن حصولك على ربطتين من الخُبز السوري الشهي، ورائحته التي تنعش الفؤاد، خاصةً وأنت تفرده بغية تهويته، أكاد أقسم إن تلك المتعة تُشعرك بالزهو والانتصار كأنك خارج من معركة، وذلك أفضل مليون مرة من حصولك بسرعة على خبز سياحي، أو الاتكال على المُعتمَد القريب من منزلك، حيث الخبز يوضع في الأكياس من دون تهوية، وأثناء النقل توضع مئات الربطات فوق بعضها، وبالنتيجة تحصل على حصتك بسهولة، لكنه “معجّن”، ونكهته غير مُحبَّبة، كما إنه سيتحوّل ببساطة إلى خبز بائت تأنفه وتأنف أكله بعد ساعات قليلة.
وعندما تيأس من كل ما حولك، وتشعر بأنك تعيش الشذرات ذاتها التي كتبها “إميل سيوران” في “مثالب الولادة”، فإن لمحة صدق تصلك من خلال لمسةِ حانية ليد أمِّك على وجهك، أو بوساطة ابتسامةٍ، ولو مُتْعَبَة، من حبيبتك، أو عبر صَوتِ صديق بعيد، أو لو جاءتك على هيئة رسالة، ولو كانت الطبيعة هي التي أرسلتها بزقزقة عصفور، أو عطر وردة، أو فيء شجرة، أو خرخرة ماء جدول، فإنها قادرة على إحالتك إلى عالَمٍ مُغاير تعمّ فيه الطمأنينة والسكينة، وكأنك بذلك تُعاكِس المَثالِب كلها وتعيش بفضائل جمّة، ولو لم يكن غيرك يراها.