عن لوحة المئة سنتيمتر والمُمتدة على طول جدار
لبنى شاكر:
لا يبدو أنّ هناك اختلافاً واضحاً، عدا عن تباين الحجم، يُمكن الكلام عنه بين اللوحتين الكبيرة والصغيرة، والتي تُقارب أبعادها كفّ اليد، ففي حين يرى البعض، في العمل الذي تنتهي قياساته عند مئة سنتيمتر اختباراً لقدرات الفنان وحِرفيته، يقول آخرون إن الأمر ذاته ينطبق على نظيره الممتد بموازاةِ طول جدار، ولو وجدنا في الاختزال، معاني يطول شرحها، فهي أيضاً قائمة في المساحات الأكثر اتساعاً، إلى جانب أنّ فكرة القياسات، ليست إشكاليةً عند معظم الفنانين، فمَن يمتلك الخبرة الكافية، لن يقف عند طولٍ وعرضٍ؛ ومع هذا كله، يصعب التعاطي مع الاختلاف الواضح في الأحجام، بالطريقة نفسها، على الأقل في الفُرجة والتحاور مع اللوحة.
مُؤخراً، وفي المعرض المشترك “رؤية 2022 ” في صالة عشتار، اشتغل الفنان د. عهد الناصر رجوب، على اللوحة التي لا تتجاوز قياساتها بضعة سنتيمترات، وجمعها مع لوحاتٍ أخرى في إطارٍ أكبر، رسمَ فيها “سماواتٍ وشواطئ وصحاري، وجوهاً متقابلة، شيئاً من الأساطير، والشبابيك”، معظمها بخطوطٍ منحنية بسيطة رغم كثرة تداخلاتها.
وقبل أعوام، خصص الفنان أسامة دياب معرضه الفردي “7 وخمسون” والذي أُقيم في صالة فاتح المدرس، للوحة الصغيرة، فعادَ إلى زياراته اليومية إلى البرية، واستحضر مواسم الحصاد والقطن والزيتون، وكثيراً مما يجود به ريف إدلب المعروف بالأخضر الشاسع فيه، فاختار منه نتفاً وجزئيات، تُصوّر بيئته الغنية بالألوان والتشكيلات، من ذلك “ثياب النساء المزركشة، أواني الماء، تدرجات ألوان التربة”.
اهتمام رجوب بالعوالم الصغيرة، رافقته أعمالٌ بحجمٍ أكبر، في حين قال لنا دياب في معرضه ذاك: إن العمل الصغير يلبي حاجته للرسم مباشرة، وهو ما لا تُتيحه اللوحة ذات القياس الكبير؛ فيما رأت الفنانة تغريد الشيباني التي أقامت معرضها الفردي الأول “نفحات من روحي”، منذ أشهر، أن اللوحة أيّاً كانت، فهي حالة من ضمن حالاتٍ يعيشها الفنان، تحكي لحظةً أو مرحلةً عايشها، وأضافت لـ”تشرين”: اللوحة الصغيرة انعكاسٌ لمشاعر تغمر الفنان وتدفعه ليحلق في سمائها، ومعها تظهر قدرته في ترجمة مشاعره ضمن مساحةٍ صغيرة، وخطوطٍ ناعمةٍ انسيابية، تخلق حالة جدلٍ، يلحظها المتلقي، ومن ثم فهي تحصر نظره في مسافةٍ معينة، يستطيع من خلالها ملاحظة أدق التفاصيل التي يُقدمها لتصوير ذاته كما يشاء.
في البحث عن الاختلاف أيضاً، تحدث الفنان والباحث حسين صقور (الفينيق)، عن “أن الفنان الذي اعتاد السيطرة على المساحات الكبيرة، يعبر طريقه نحو الأعمال الصغيرة، ببساطة ويسرٍ كما شربة ماء واستراحة قصيرة بين فصلين، لكن هذا يتبع أيضاً الطريقة التي يرى فيها الفنان العالم من حوله”.
يشرح في حديثه لـ “تشرين”: “ما تقدم ينطبق على مَن ينتقل من الكل إلى الجزء، مَن يستشف الجمال خلال مراحل الخلق، لا عبر النتاج النهائي الكامل والمتكامل والساعي لمثالية كاذبة”. وسيصبح الأمر أكثر وضوحاً، برأيه، “عند المقارنة بين اللوحة الصغيرة والكبيرة من حيث الطريق والطريقة والمخاض الممتد من الومضة الأولى حتى ولادة العمل بالشكل والصورة النهائية”.
يقول صقور: “في الوقت الذي يحتاج فيه العمل الكبير لفرشاةٍ عريضة مُمتلئة باللون، تستطيع هي ذاتها إنهاء العمل الصغير بلحظات، عند فنانٍ خبيرٍ قادرٍ على استشفاف الخلاصة التي تُشبهه في هذا العالم، أما حين يكون أسيراً للمرئيات الخادعة، ستفرض عليه استبدال أدواته بأخرى ناعمة وصغيرة، وسوف تأسره التفاصيل منذ البداية، وربما تُوقعه في مطباتٍ لا يستطيع تخليص نفسه منها، إن لم يمتلك الكثير من الحرفية”. وفي العودة إلى المساحات الكبيرة، فهي “تحمل روح التحدي، وتعكس قدرةً في السيطرة على مشاعر جارفة، تبحث عن متسعٍ لها في المكان والزمان”.
الفروقات كما يسوقها الباحث، “تظهر مثلاً أيضاً في ضرورة الابتعاد عدة أمتار ليستطيع الفنان مُراقبة وإدراك ما يقوم به في العمل الكبير، بينما يكفي النظر من مسافة بقدر طول ذراعه في الصغير”، وقد يضطر لترك العمل الكبير لمدةٍ من الوقت لتنضج فكرته أو لتجف الألوان فيه، في حين تبقى السيطرة على الفكرة والألوان وجفافها أكبر وأسرع في الأعمال الصغيرة”، ولا يرتبط الإبداع بأحد العملين دون الآخر، يُؤكد صقور: “الإبداع مرتبطٌ بتجربة الفنان كاملة، وبمدى قدرته على تحريك مسار الفن نحو اتجاهاتٍ غير معهودة، بمعنى آخر؛ قدرته على فتح طرقٍ تحمل بصمته وطابعه الذي لا يزول، بل يترسخ مع الزمن”.