الفنان محمد بعجانو والفن المُنتمي الطالع من سورية العريقة
علي الراعي
ليس من الصعوبة لمُتابع التجربة الفنية للفنان النحّات محمد بعجانو (1956)؛ أن يكتشف المرجعيات الجمالية التي يبني عليها هذا الفنان عمارته النحتية بنوعيها: المنحوتات، أو الأعمال النصبية والجدارية، وما بينهما من حجوم..
فبعجانو الذي هيأت له الظروف أن يشتغل (مُرمماً) ذات زمانٍ بعيد في المتحف الوطني بدمشق عقب تخرجه في كليلة الفنون الجميلة سنة 1980؛ جعلته تلك المعايشة للفن السوري القديم يتشبّع بالقيم الجمالية التي قدمتها له تلك الأعمال النحتية التي قدّمها له أجداده السوريون منذ آلاف السنين، وربما من هنا كان استغرابه الذي لا يملُّ يُعبّرُ عنه طوال الوقت، استغراب غالباً ما يتحوّل استهجاناً واحتجاجاً على القيم الجمالية التي يتم تدريسها في المناهج التعليمية في الجامعات والمعاهد الفنية التي تصرُّ على تدريس القيم الجمالية اليونانية والإغريقية والغربية من دون الاهتمام بما قدمتّه سورية القديمة، التي ربما كانت في كثير من الأحيان (سبّاقة) في تقديم قيمها الجمالية إلى العالم في النحت من توازن وقيم الظل والنور، والاختزال، والنسب ما بين الرأس والجسم، وغيرها الكثير.. التي هي ملامح جمالية فنية سورية، وإضافة إلى هذه المرجعية ثمة مرجعية أخرى لأعمال الفنان بعجانو، وإن كانت هي الأخرى لا تبتعد عن الأولى، وإنما هي ضمن مناخاتها؛ وهي الميثولوجيا السورية قديمها وحديثها من أساطير وعقائد، وحكايات شعبية، وربما كانت أول مواجهة مع هذا المخزون الميثولوجي الذي جاء مُبكراً ومنذ الطفولة، وتحديداً من طرقات، وأزقة إحدى ضواحي اللاذقية – الزقزقانية- الموحلة، التي كان يخوّض في طينها، ومن ثمّ يُنجز تشكيلاته حسب ما تمليه عليه مخيلته الطفلية غير مُبال بعقوبات قد تنتظره عندما يعود للبيت مُلطخاً بالوحل، وهو يحمل مُنجزاته الطينية.
ومن بعد معرفة هذه المرجعيات لبعجانو، التي وضعت أعماله ضمن (الفن المُنتمي)، أو فن بملامح هوية لا تُخطئها عينُ المُتلقي، فن مُفعم بسوريته التي تجلت أكثر ما تجلت بالشواغل النحتية، وفي التكاوين، والنسب الجمالية، والاختزالات، وعشرات الرموز السورية، من نساء مُجنحات، وثيران يُطلقها بشكلٍ مُختلف في كلِّ مرة.. وعشرات الأقنعة – الماسكات، والوجوه، وبعض الكائنات الحيوانية الأخرى، وإن كان (الثور) التكوين الساحر الذي طالما شكّل إغواءً فنيّاً لدى غير نحات في سورية، هذا الثور الذي كان الشخصية الأبرز في فضاءات سورية البعيدة في قدامتها، وتحديداً منذ أول نص في هذه الجغرافيا، وربما يكون أول نص تمّ تدوينه في هذا العالم، وأقصد ملحمة جلجامش، وثورها السماوي الذي خاض كل من جلجامش وصديقه أنكيدو معه أوّل صراعاتهما الوجودية، وانتصرا عليه.
صحيح أن الكثيرين من الفنانين التشكيليين، وخاصة النحاتين منهم؛ اشتغلوا على موضوعة (الثور)، غير إن بعجانو الذي اشتغل عليه على أنه الأقرب كعلاقة مع الأرض؛ وكان لاشتغاله عليه نظرة خاصة على أكثر من مستوى، سواء على مستوى الحجوم أم التكوين، ومن ثمّ الاختزالات.. الثور الذي – كما أسلفنا- ومنذ تمّ قتله في البداية ومصرعه في النص السوري القديم – جلجامش، ومن ثمّ ترويضه وجعله الأقرب للأرض وصديق الفلاحين ليخرجوا منها خيراتها وقد حرثها، لتنتج بعدها بما يُشبه عملية الإنجاب من ولادات جديدة، وهو أيضاً (زيوس) العاشق الذي سيخطف الأميرة (أوروبا) السورية بعد أن يتقمص لها بهيئة ثور، على ظهره من سواحل اللاذقية، ويعبرُ بها البحر إلى اليونان، ومن ثمّ لتعطي اسمها لكل ما يُعرف اليوم بالقارة الأوروبية.. ملامح تلك الثيران القديمة في شغفها الذي يؤنسنه بعجانو ببراعة الفنان المُنتمي على وجوه ثيرانه التي أطلقها مؤخراً في معرضه الأحدث بصالة (الآرت هاوس) بدمشق، والتي كانت بدورها خلاصات لتجارب عقود من السنين اشتغل خلالها بعجانو على هذه المفردة – الثور، التي كانت في معرضه الأخير هي السائدة الأكثر ضمن منحوتاته التي تجاوزت الثلاثين عملاً نحتياً، والتي تميزت أكثر بانشغالها بالتكوين – الكتلة على حساب الفراغ، بمعنى اختزالها إلى حدودٍ بعيدة كان أبرزها في إحدى المنحوتات التي شكلت لدى بعحانو نوعاً من التحدي في هذا التكثيف الذي كان بطله الأول الخطوط المنحنية والمنسابة بحميمية الانحناء والتلوي بحيث اختصرت التفاصيل إلى أقل ما يُمكن، وهو – ربما – ما أعطى بعجانو أسلوبه اليوم الذي أبعد أعماله النحتية عن الإغراق في التفاصيل، كما لم يتركها تضيع في متاهات التجريد، وإنما هي قائمة على هذه التعبيرية التي توازن بين الاتجاهين، ذلك أنّ بعجانو ورغم كل هذه المؤونة من المخزون الميثولوجي والقيم الجمالية النحتية من سورية القديمة، التي كانت عدّته الفنية التي انطلق بها بأعماله في مشارق العالم ومغاربها؛ غير أنها لم تورطه في التسجيلية أو التوثيقية كما فعلت عند البعض، عندما لم يستطع الإفلات من طغيانها، وإنما أعطتّه الكثير من احتمالات الصياغة والتنويع، بمعنى كانت له، أو شكّلت لديه حافزاً ليبني عليها، وحافظ على ما يُشير إلى الهوية، ولعلّ هذا أكثر ما برز في توقيعه على عمله النحتي الذي اختاره حروفاً من أبجدية أوغاريت في تجلياتها الأولى.. وهو أسلوب لم يجعله أيضاً يذهب بعيداً في الغموض الذي يُمكن أن يقع فيه عُشّاق التجريد، ورغم ذلك فإنه لم يهمل التراجيديا التي كانت تُبديها الوجوه سواء لحيوانات أم نساء، وحتى الأقنعة والماسكات من حب وشغف وحزن وغيرها من المشاعر الإنسانية.
تلك بعض ملامح العمارة النحتية التي بناها بعجانو في مختلف أعماله النحتية بشواغلها وتكويناتها من أعمال تخص المرأة، أو أعمال الوجوه والماسكات، وأخيراً الكائنات الحيوانية التي تحمل قصة، أو في تلافيفها الكثير من الحكايا العتيقة، ربما أكثر ما ترويها (معلولا) المرتفعة على متن ثورٍ قديم كما جسدتّها إحدى المنحوتات.