حين يصبح الأدب خبزاً!
جواد ديوب
في ذكرى طريفة أستحضرها مثل الحلم بحنين موجع كلما ضاق بي الوقت ولم يسمح بقراءة كتاب أو رواية والاستمتاع بها، أرى أبي واقفاً في أحد باصات النقل القديمة، مستنداً بجسده إلى الزجاج الخلفي للباص، غارقاً في قراءة كتاب يمسكه بكلتا يديه، حين يتوقف الباص فجأة وبشكلٍ عنيف ما يجعل والدي ينقذف، ورأسه يكاد يلامس أرضية الباص، كصخرة متدحرجة على طول الممر بين المقاعد من آخر الباص إلى جوار السائق المصعوق الذي يسأله: هل أنت بخير؟ فيجيبه والدي الذي لم يستطع التمسك بأي مقبض خوفاً من أن يفلت الكتاب الكنز من يديه، بخجلٍ و من دون أن يلتفت إلى الركاب المتضاحكين: آآ، أنا فقط مستعجل أريد النزول هنا، هنا بالضبط!
لقد كان ذلك زمناً قديماً سعيداً ، حيث كنت أشاهد عدداً كبيراً من السوريين في الباصات وفي الحدائق وفي الأماكن الحكومية يقرؤون كل ما يمكنهم شراؤه بنصف راتبٍ يكاد لا يكفيهم لإطعام أولادهم، لكنهم رغم ذلك امتلكوا القناعة الحقيقية بأنه من المعيب والمخجل ألا يقرأ الإنسان ولو الأخبار المكرورة، بل حتى التسلية بقراءة دليل الهاتف أو الوصفات الطبية لأدوية أمراضٍ لم يصابوا بها، المهم أن يتعوّد المرء على فعل القراءة واكتشاف ما يمكن اكتشافه.
وقتها ضيّع والدي ثلاث كاميرات نوع “زيِنت/Zenit ” وأضاع معها إلى الأبد ذكرياتنا المختبئة في نيغاتيف الفيلم بسبب استغراقه في قراءة الكتب، ووصلت به الأمور حدّ التشاجر المستمر مع والدتي التي ظلّت، بغضب الزوجة، تتهمه بأن لا نفع منه في الحياة، وأنه لا يستطيع تأمين المال الكافي لشراء اللوازم الضرورية للبيت بسبب “تبديده” لراتبه على شراء الكتب عديمة الفائدة إلا في جعلنا، نحن أولادهما، أكثر جنوناً وبعداً عن الواقع مع عاطفةٍ قاتلة.
وبالفعل كادت تلك الكتب تطيح بعقولنا ليس لعظمة ما تختزنه بالتأكيد أو لأننا قرأناها كلها، إنما لأن القدر القاسي ساق إليها مجموعة من الشباب المتعصّب فأحرقوها كلها مع بداية الحرب على سورية. أحرقوا مكتبةً قضى والدي عمراً في جمعها وحشرها بين الثياب وتحت السرير وفوق رفوف المطبخ بين الصحون وفي السقيفة وتحت الدرج وفي علب كرتون ضخمة في بيت الدجاجات، كل ذلك كي لا يأتي زمانٌ مُرّ على أولاده فيقولون له: هذا ما جنيته علينا يا أبي، وما جنينا على أحد.
بل كان زمناً، يُعد فيه عدمُ إعادة الكتب للأصدقاء عادةً محلّلةً ومن الطقوس التي نتندّر بها في السهرات وذلك من قناعة فكاهية لدى الكثيرين بأن من يمنع الكتاب عن أصدقائه هو شخص بلا إحساس، ومن يعيد كتاباً استعاره هو شخص بلا عقل!
وكنّا نحن الأطفال ننتظر بشغفٍ ولهفة كتاباً هديةً تجلب الفرح والعجائب وألغاز المستقبل محمولةً على صفحات ملونة بألوان قوس قزح، كنا ننتظرها بكل صدق لا كما يفعل معظم أطفالنا اليوم إن أهداهم أحدٌ كتاباً جهِد في انتقائه لهم، يتقبلّونه على مضض وبسخرية واضحة مقلّلين من قيمته، لاعنينَ صاحب الهدية وشاتمين حظّهم السيىء الذي جلب لهم “مصيبةً” بدلاً من جهاز موبايل أو ساعة رقمية هي هاتفٌ وكاميرا ومشغّل موسيقا في الوقت نفسه.
نعم، لديهم كل الحق في أنهم خُلقوا لزمانٍ غير زماننا، وما يصحّ الآن لم يكن ممكناً في أيام آبائهم، لكنهم بكل أسف فقدوا الإحساس بأهمية فكرة القراءة بحد ذاتها، فكرة أن لا غنى عن الكتاب ورقياً كان أم إلكترونياً مهما ارتقت بهم الثورة التكنولوجية وطيّرتهم إلى حدود اللامعقول.
“هذا العالمَ سيتخوزق عندما يسافر البشر في عربة الدرجة الأولى، والأدب في عربة الشحن”.. هكذا يصرخ ماركيز في روايته “مئة عام من العزلة” على لسان إحدى شخصياته العالمُ الكتلانيّ صاحب المكتبة المسحورة.
ونصرخ الآن: لن نستمر في الوجود وإثبات أننا لسنا على هامش التاريخ ما لم يصبحِ الأدبُ جزءاً من كينونتنا وهويتنا ووجودنا اليوميّ، جزءاً عضوياً كالماء والهواء والخبز.. وإلا سننتهي لأن نكون رمادَ قلوبٍ محروقة بالخيبات، وقشورَ عقولٍ يبّسها الجهل، وطحالبَ ألسنٍ عفّنها الزمن.