“نسرُ” مرام دريد يُحلّقُ على قمم الغياب 

راوية زاهر

“نسرٌ على قمم الغياب” مجموعة شعرية للشاعرة مرام دريد النسر صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وصاحبة المجموعة شاعرة وطبيبة، وعضو اتحاد الكتاب العرب، وسبق أن صدر لها العديد من المجموعات الشعرية (مراميات، سحر عانق الأبد، والبيان).

و”نسر على قمم الغياب”؛ عنوان يجنح بنا عالياً لنُحلق في أعنان السماء أمام طائرٍ يحملُ من الكبرياء والتسامي والعنفوان الشيء الكثير؛ إنه ال”نسر” الذي تردفه الشاعرة بلفظة “قمم”، التي لاتقل من حيث الإيحاء عن سابقتها علواً وشموخاً لتتبع اللفظتين بلفظ معنوي صادم وهو “الغياب” ومايحمله هذا اللفظ من تراتيل حزن، يسحبنا من عالم العلو إلى قممٍ من نوعٍ آخر، وهي ارتفاع وتحليق في عالم الغياب الذي يسكنه الأنين والأرق.. ويبقى الحبيب الغائب هو السيّد الشامخ الذي يسكن هذا العالم الخاص.

“نسر على قمم الغياب”؛ مجموعة شعرية بثلاثة أبواب (مااخترت حبّك ، قصائد منوعة، المغفرة)، فحبُّ حبيبها كان شهقتين وزفرة، وندى حبيب على جداول الحنين، ليحلق نسر الغياب مكابرةً، حاملاً قبلة فتسائله كيف يشعر؟! وإليه ملاذ النفس أمسى طبيباً للروح، ترتلُ من أجله صلاةً وترتجي له أعناباً وتيناً ، ويبقى الانتظار رجاءً يدندن الغياب قرب المدينة، ويشقُّ حديثاً مع الغيم عن تلك القُبّرة شبيهة الروح:

“أنبيك َ أني ماأزال وفيةً،

وعلى غرار السابقين سأعشق،

سأردّ عنك البرد دونك خافقي

ضع فوق صدري كل هم ّ يقلق.”

وقد جنحت الشاعرة في قصيدتها (كيف تشعر) إلى الخيال بعد أن كانت تغوص ببحر المكابرة في قصيدة سابقة، فكان العشق المؤجل والمكابرة المندفعة في حالةٍ غريبة بين الإقدام والإحجام كأنها حالة تناقضية تحملها النفس تعبّرُ عن درجة عالية من القلق والتوتر النفسي.. ويبدو أنه لا بديل عن العشق، ولهذا الحبيب الذي ملك شغاف الروح في نص (مكابرة):

“أعرضتُ عن هذا الغرام طويلاً

وبرغم جهدي ما وجدت بديلاً”

وفي حضن قصيدة (كيف تشعر) ترمي بكلِّ هذا الكبرياء بكلِّ جرأةٍ واندفاع:

“دفعتُ لقاء الحب عمري فلا تغب

يد الغيم بيضاء وكفك مزهرُ

دع الصمت يهذي في الظلام بحبّنا

ستغزو بذاك الوقت أرضي وتظفر”.

تلبس الشاعرة جرحها الدامي بقصيدة مطرزة على ثوب عرسها وتمضي.. وقد خصّت المرأة الأم والبتول بشيءٍ من قصائدها، لنجد الشاعرة الطبيبة، الإنسانة ترمي وشاح الشعر على عملها كطبيبة نسائية، جاعلةً من القصيدة ولادة؛ طفلها الألفاظ، ومشاعرها الأنين وقوافيها صرخات أم بألفِ إطلاق يلفها الآه، وزنها بحور الحب والجمال والرأفة، وها هي تجعل من الأم ربيعاً:

“متى جاء الربيع تعشقوني

ومن كل الجهات تأملوني”.

وأمام معجم اليتم والغريب وطفل الحرب والفقير الذي تعجُّ به النصوص؛ يطيرُ الصوابُ، ويكون الوداع خاتمة فتقول:

“ارجعْ لأرض كنت فيها سيّداً..

نسر أنا ومنازلي الغيمات”.

وفي باب المغفرة، وجدنا الانزياح اللغوي منتشراً على أوجه والتورية والالتفاف بشكلٍ واضح فعبارة (منذ اقترفت غواية الإفصاح) لغة انزياحية قوية تتراقص على لحن الإبداع والتخييل المذهل، والشعر كان على الدوام دواء لكلِّ المواجع، حتى بعد أن يُخلف الوعد وينام السرّ وتتحطمُ الأماني في عتاب الروح للروح واللهفة للهفة:

“أيوب صلى على جرحي وطاف به

ليلاً ليقطف من نعناع أخيلتي”.

لتسقطها سهام الجحود والنكران صريعة الحب في أبياتٍ تميلُ إلى الحكمة:

“أمضى السهام سهام لا رؤوس لها

وأعثرُ الناس من للحب قد جحدا”.

وتجوب الشاعرة في دياجير الشوق واللهفة، وتفضح خبايا الضلوع ظلال المرايا، لتتألم المصابيحُ على قارعة اللقاء مخلفاً الحب موعده وجاعلاً الدم أسيراً على ضفاف الشوق.

وجاءت لغة النصوص شاعرية تخييلية قوية، متنوعة، فقد زخر المعجم اللغوي عند الشاعرة بألفاظ السمو والرفعة والشموخ،(النسر، حديث الغيم، السحاب، السماء، المكابرة..)، إضافة إلى الحقل الدلالي الشعوري المتوزع بين الحسي والنفسي، مثل الألفاظ الشهوانية المتعلقة بالقبل والشفاه في توظيف دلالي يخدم سياقات النص اللطيفة: (تلك الشفاه الراجفات تعانقت.)، و(أتذكرُ كم قبلة سرقنا؟؟)، (وضعْ فوق جرحي قبلةً لا تكرر.). كذلك استندت الشاعرة إلى الوصف في أكثر من مكان في محاولة لإسقاط الحالات الشعورية للموصوف على ذاتها كما في مشهد القُبّرة المثير:

“وتنام في برد الشتاء وحيدةً

من بعد ما ولّى الحنين وأدبرا

مثلي يراودها الحنين وكلّما

فتحتُ له باب الرّجوع تعذرا” .

وقد زخرت المجموعة بالصور والانزياحات اللغوية، والميل إلى التورية والاستعارة في توظيفٍ باهر لدلالاتها المعنوية والنفسية والجمالية:

“ودعاك في يوم الفراق لصخرة

كانت تئنُّ على الضفاف لترجعك”،

الصخرة تئن استعارة مكنية، وهي صورة مؤنسنة ورائعة، و(حلم يعشق التأجيلا) صورة غاية في الإبداع، وكان الطباقُ واضحا ليُعبّر التضاد عن النزق النفسي والتوتر الحاد عند الشاعرة: (رباه كيف يضلُّ الدرب من عرفا؟؟؟).. كما تنوعت الضمائر المستخدمة عند الشاعرة مع سيطرة ضمير المتكلم على أغلبية النصوص، فيما طوعت لغتَها لتُعبّرُ عن كل ما يثير خلجاتها رغم قيود الوزن.. وقد زاوجت الشاعرة بين الشكل الفراهيدي والشكل التفعيلي، ونزلت مراراً عن صهوة الموزون، وتربعت على عرش قصيدة النثر، وقد أغدقت علينا بفيض بوح القلم والقلب والروح، محملةً ألفاظها المحررة من القيود طاقات شعورية هائلة كما في نص (العروس).. كما زخرت النصوص بتقنية التقديم والتأخير في محاولةٍ لتبيان أهمية المتقدم ” للبحر أنفاس”.. وكذلك تنوعت القيم الجمالية، وسيطر الحدس التراجيدي أحيانا على بعض النصوص متمثلاً بالشكل العذابي للحب وأنات الفراق والرحيل:

“سأمضي إلى الموت بالرغم مني

وأنسى أني يوماً عشقت”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار