محمد بعجانو ينحت الجمال في الصخر!
زيد قطريب
إنقاذ النحت من العبث، مهمة شاقة يفعلها محمد بعجانو من دون تشويه في هوية الأشياء. كأنه يعقد اتفاقاً ضمنياً مع الطبيعة ليزيل الترسبات التي تفتك بالجوهر وتجعله بعيداً عن مرمى العين. جذوع تصور عشتار أو المرأة الأم. امرأة حديثة بجماليات لا تنقطع عن الجدّة التاريخية للخصب والحب عند السوريين القدماء. كذلك هي الرموز التي يصر بعجانو على حضورها مثل الثور والسمكة والعقاب السوري الجارح. هكذا يبدو وهو ينهل من خزان الجماليات الموروث، الذي تمت القطيعة معه لأسباب كثيرة. فهو يعيد الكتلة إلى رشدها بعدما تعرضت للتعديل والتغيير في طبيعة الهوية.
منحوتات بعجانو غير مصابة بهاجس تقليد الفن الأوروبي، فالبلد الذي صنع أول منحوتة في التاريخ، جدير برسم طريقه الفني الخاص، لأنه ابن البيئة وربيب فيئها وشمسها ومائها الطيب. لذلك لا يتورط بعجانو في تهويمات الشكل ومطبات التجريد التي تنقذ الكثيرين من اضمحلال الموهبة وفقدان المنهج في العمل. وسيكون من المنطقي أن يذهب الفنان باتجاه النبع مباشرة فلا ينشغل بالجداول المتفرعة عنه. وتلك عملية تحتاج ثقافة في تاريخ الفن وعلم الجمال إلى جانب المهارات التي تعكس معرفة الوصول إلى أشكال تسر العين.
نحتُ بعجانو غير مصاب بالفصام، فهو يمتلك شجرة للعائلة وبطاقة شخصية تقول إنني ابن هذه الأرض وأحفظ صخورها وأشجارها ورملها الناعم.. لهذا فإن إزميله ينجو من ضياع البوصلة، لأنه يتجه نحو الهدف بمهارة وعن سابق معرفة. ولأننا كثيراً ما نشير إلى غياب الخصوصية في التشكيل السوري الحديث، نقول إن بعجانو في أعماله النحتية، يمسك بالحداثة والتراث، ويبدو مهجوساً بالبحث عن الخصوصية والفرادة التي تنجيه من تقليد الثقافات الأخرى.
منحوتات بعجانو المعروضة حالياً في صالة الآرت هاوس بدمشق، تمسك مهارة الشكل وعمق المضمون، وبقدر ما تبدو أغصان شجرته الإبداعية ممتدة للأعلى، فإن الجذور تحفر عميقاً في الأرض. وبالتالي يبدو طبيعياً أن نقرأ اسم بعجانو منقوشاً بأبجدية أوغاريت على التماثيل التي تكاد أن تنطق.. حدقاتٌ مثل عيون النسور، وخيول تنهب التلال، وأرضٌ مستقرة لا تزعزعها عاصفة.. نحتَ بعجانو مدينة معلولا التاريخية، فجعلها شجرة وارفة تستقر فوق ثور، في إشارة إلى الاتصال بالأرض. إنه لا يعيد إحياء الجماليات السورية القديمة وحسب، بل يضيف عليها ويحدثها، باعتباره الحفيد الشرعي لتلك المخيلة التي يُراد لها أن تفقد رشدها.
استخدم بعجانو أحجار الصخور وخشب الصنوبر. وعلى البازلت القاسي والرخام الصلد، حفر خصوصيته كشاهد أخير على الجمال. مهمة صعبة يتنكبها الفنان وهو ينبش في الجبال ويعيد تشكيل عجائن الأرض.