إشكالية العلاقة بين المبدع والناقد
ثناء عليان
نظر المبدعُ إلى الناقد شزراً، ثم قال: “أنا مبدِعٌ!! أنا موهوبٌ!! أما أنتَ فمجرّدُ تابعٍ لي، نتاجُك مرتبط بإبداعي وبموهبتي، ولاحِقٌ لهما؛ ولا مسوِّغ لوجودك لولاهما… في الأصل، أردتَ أن تكون مبدِعاً، ولكنك فشلتّ! خانتك موهبتك، فتحوّلتَ إلى النقد لإخفاء فشلك. وشتّان بين المبدع والناقد!”
ضحك الناقد بعصبية، وقال: “بل أعلم أن نقدي هو الذي يعطي قيمةً لإبداعك، أو يجرّده من القيمة تماماً. ولن تُعرَف لا أنتَ ولا إبداعُك إلّا من خلال نقدي. أنا الذي أُشهِركَ أو أغمرك. أنا الذي أُعلي من قدرِك وأحطّ منه!”
بهذه المهاترة الجميلة بين المبدع والناقد بدأ القاص والمترجم عدنان محمد محاضرته التي ألقاها في فرع اتحاد الكتاب العرب في طرطوس تحت عنوان “أزمةُ إبداعٍ أم أزمة نقدٍ ” ؟ أكد فيها ضرورة الحديث عن الإشكالية بين أقطاب العملية الإبداعية الثلاثة “المبدع والناقد والمتلقي”، وذلك لغايتين اثنتين: أولاهما: لكي يقتنع المبدعون أن النقد وُجد في الأصل لـ “تقويم” العملية الإبداعية و”تقييمها”، ورفدِها بأفكار جديدة قد لا تكون قد خطرت ببال المبدع أصلاً، وذلك بغضّ النظر عن صوابيتها، أو خطئها.. وثانيتهما: إعانة المتلقّي على فك رموز الرسالة الإبداعية، وإضاءة ما غمُض فيها من أفكار.
ويؤكد صاحب “السباق” ضرورة أن يتحلّى المبدع بالموهبة، وامتلاك أدواته جيداً (كاللغة والأسلوب)، والتمكّن من التعبير عما يريد، أي القدرة على إيصال مادة إبداعه إلى المتلقّي بأفضل صورةٍ ممكنة، أما الناقد، فيجب أن يتحلّى بصفتين رئيسيتين، وليس صفةً واحدة، وهما الثقافة والحرفية، لافتاً إلى أن التراث العربي حمل لنا أسماءَ لها باعٌ طويل في نقد الشعر (لأن النثر لم يكن بغزارة الشعر) من أمثال الجاحظ وعبدِ القاهر الجرجاني وأبو حيان التوحيدي وأبو هلال العسكري والآمدي وابنِ قتيبة وابن سلّام الجمحي… وغيرهم كثير جداً، وتركوا لنا كتباً لا تزال تُعد من أهم المراجع في النقد ولا تزال تُدرَّس حتى الآن، كما نجد على الصعيد العالمي أسماءَ نقّادٍ بلغت شأواً عظيماً في مجالها حتى غدت راسخة في أذهان المبدعين قبل المتلقّين، وشكّلت مدارس نقدية، كجورج لوكاتش (نظرية الرواية، الرواية التاريخية) ولوسيان غولدمان (من أجل سوسيولوجيا الرواية)، ورولان بارت (الدرجة صفر للكتابة، هسهسة اللغة) وغيرهم.. وفي وطننا العربي، برزت أسماءُ نقّاد كبار، ولاسيما في مجال السرديات، نذكر منهم الدكتور سعيد يقطين والدكتور عبد الملك مرتاض والدكتور جابر عصفور والدكتور فيصل درّاج والدكتورة ماجدة حمّود والدكتور صلاح صالح. . ويرى صاحب “حقل من ريح” أن هؤلاء النقّاد، الأجانب والعرب، بنوا مجدَهم بعبقريتهم النقدية فقط، من دون أن يتّكئوا على أي موهبة أخرى- باستثناء أمبرتو إيكو الذي كتب روايةَ “اسم الوردة” التي يعدّها بعضُ النقّاد مهمةً جداً- واستطاعوا أن يسجّلوا أسماءهم في سجل الخلود شأنُهم شأنُ كبارِ الروائيين أنفسِهم.. وأضاف: هل النقد شرٌّ لا بدّ منه؟ يجيب قلّةٌ من المبدعين ممن لديهم جرعةٌ زائدة من النرجسيةٍ والعنجهيةٍ والاستعلاء، وهم مسلَّحون بفكرة خاطئة جداً وخطيرة جداً مفادها أن الإبداع لا يعترف بالحدود، ولا بالقيود، ومن حق المبدع أن يُخرِج إبداعه كما يشاء، ويجيب معظم المبدعين ممن هم أكثر واقعيةً: نعم، هو شرّ لا بدّ منه، ولا بدّ من التوصّل إلى صيغة تفاهمٍ بين المبدع والناقد؛ وبعضهُم يرى أن النقد ضروري جداً، بل لابدّ منه لقيام العملية الإبداعية. وهؤلاء في رأيي هم المبدعون الحقيقيون لأنهم لا يُغلقون عقولَهم أمام أية معرفةٍ، وحتى إذا كانوا يرون أن هذا النقدَ أو ذاك، غيرُ موفَّق، أو قاصرٌ، أو مخطئ في حقّهم… إلخ، فإنهم يستطيعون بكل سهولةٍ أن يبيّنوا وجهة نظرهم، ويدافعوا عن إبداعاتهم بكل رقي وتحضّر، وليس بالشتائم وقذف الآخرين بأبشع الصفات أقلُّها الجهل والتجنّي، والتحامل…إلخ.
وختم القاص محمد مؤكداً أن الشعر هو الأكثر مظلوميةً من حيث تلقّيه للنقد في عصرنا الحالي، مقارنةً بالجنسين الأدبيين السرديين: القصة والرواية، بعد أن ظل يحظى بكل النقد طوال الألف والخمسمئة سنة الماضية، وفي رأيه هذا يعود لسببين: أولهما استسهال الشعر، وخاصة في الخمسين سنة الأخيرة، بعد ظهور الشعر الحديث وقصيدة النثر، وثانيهما هو اتّصافُ بعض النقّاد، وللأسف الشديد، بصفة ذميمة أخرى ألّا وهي الانتقائية، فغالباً ما يختار الناقد الشعراءَ المشهورين لينقد إبداعاتهم، ولا يعبأ عادةً بالأسماء غير المعروفة.