كماشة اليمين واليسار تطيح بماكرون
ميشيل كلاغاصي:
بعد أقل من شهرين على إعادة انتخابه رئيساً، فقد إيمانويل ماكرون السيطرة على الجمعية الوطنية الفرنسية، ولم يفلح في الفوز بعدد المقاعد التي كان يحتاجها للحفاظ على سيطرته على الجمعية ، بفضل “كماشة” التحالف اليساري الواسع بقيادة جان لوك ميلينشون، واليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان، على الرغم من تموضعهما على طرفي نقيضٍ سياسي، لكنهما امتلكا الطموح ذاته بمعارضة حكومة ماكرون التي ادعت الوسطية، وبدا المشهد وكأنهما اقترعا على ثيابه، وتقاسما مقاعد الجمعية الوطنية التي كانت بحوزته لخمس سنوات مضت، حوّل فيها فرنسا إلى دولة هزيلة، ومطية لغطرسته وعجرفته وطموحاته الأوروبية والدولية، فما عادت فرنسا تشبه فرنسا، وما عادت تفوح روائح عطورها الباريسية، وتعفنت أجبانها على معقد الرئاسة الماكروني، اللاهث وراء السياسة الخارجية الأمريكية والاتحاد الأوروبي، مبتعداً عن الهوية والانتماء الفرنسي، فغابت العدالة، وتراجعت مكانة فرنسا الأوروبية والدولية، وسار بعكس مصالح الشعب الفرنسي، وحمل علم الاتحاد الأوروبي تحت قوس النصر، وتدهورت أوضاعها الداخلية، وظهرت ستراتها الصفراء ومشاغبوها، وتعنت قوميوها، وسط قلق شعبويها، ووصول فقرائها ومتقاعديها من الطبقة الوسطى إلى حدِّ الحرمان والجوع، بعدما نسي وعوده التي لم يحقق منها شيئاً خلال السنوات الخمس الأولى، وفاز بالرئاسة ليمدد وعوده لخمسة أعوامٍ أخرى بلا ضمانة أو حتى ثقة.
لقد حققت كل من لوبان ويمينها المتطرف، وميلينشون وتحالفه اليساري، ما لم يكن يتوقعه أحد، وأدى نجاحهما إلى إلحاق هزيمة مدوية بالحزب الرئاسي، كعاصفة باريسية، فاجأت رئيسة الوزراء الجديدة إليزابيث بورن التي وصفت النتائج والوضع الجديد بأنه “غير مسبوق”، واعتبرته “يمثل خطراً على فرنسا نظراً للمخاطر التي تواجهها على الصعيدين الوطني والدولي”، فيما رأت لوبان أن “مغامرة ماكرون انتهت” وبأنه أصبح رئيساً لحكومة يشكل فيها وحزبه الأقلية.
فقد ضاعف ميلينشون مقاعده وتحالفه اليساري إلى 131 مقعداً، كذلك لوبان قفزت حصتها من ثمانية مقاعد إلى 89 مقعداً، وبذلك ستشهد الساحة الفرنسية أقوى جبهة معارضة داخلية، لن تسمح لماكرون بالتفرد باتخاذ القرارات، وبتنفيذ رؤيته الخاصة في الإصلاحات التي تتعارض مع غير رؤى للوبان وغيرها، بما يمكن أن يؤدي إلى خلافات داخلية وتسويات ومفاوضات وشلل سياسي على مدى السنوات الخمس القادمة، الأمر الذي يخشاه جميع الفرنسيين.
لقد وعد ماكرون بمعالجة ارتفاع تكاليف الأوضاع المعيشية، وبإصلاح المزايا، وخفض الضرائب وبرفع سن التقاعد تدريجياً من 62 إلى 65.. في وقتٍ يملك منافسوه ومعارضوه ، أفكاراً مختلفة تماماً حول كيفية وآلية تنفيذ الإصلاحات، خصوصاً ما يتعلق بمسائل إصلاح سن التقاعد، وقضايا الطاقة الهوائية وحياد الكربون، وعشرات القضايا، التي تقتضي مناقشة حقيقية لإنشاء مجلس وطني لمواطني الجمهورية الفرنسية، للمساهمة بالحد من الأزمات والخلافات الداخلية، ولجعل فرنسا أكثر ديمقراطيةً.
يبدو أن النجاح الباهر للتحالف اليساري الفرنسي، بالتوازي مع فرحة دول وشعوب أمريكا اللاتينية، بوصول اليساري غوستافو بيترو إلى الرئاسة في كولومبيا بعد سنوات طويلة لغياب اليسار عن المشهد السياسي، بالإضافة للأوضاع الصعبة للحكومات الأوروبية اليمينية، التي وضعت نفسها في المركب الأمريكي الغارق، وما كشفه فشل الحرب الأمريكية- الأطلسية على روسيا وأوكرانيا والقارة الأوروبية، بعدما كادت ألوان اليمين تصبغ العالم كله.. إذ كان من المبكر باعتقاد البعض الحديث عن هزيمة اليمين، لكن عودة اليسار إلى الواجهة باتت واضحة، مهذه ستشكل عاملاً مهماً في التحول القطبي العالمي وتحالفاته وتوازناته الجديدة.