العرب: المصير المبهم.. هل سيلجون عالم الغد بالوهم؟

إدريس هاني:

لم تعد الحرب في الشرق الأوسط خيارا سهلا بعد أن تداخلت معضلة الشرق الأوسط بالأفق الجيوستراتيجي للشّرق الأقصى وأوراسيا فضلا عن أفريقيا ووصولا إلى أمريكا اللاتينية. إنّ المغامرة بالحرب هنا، هي مدخل حتمي لحرب عالمية ثالثة؛ تلك الحرب التي تبدو قائمة بأشكال مختلفة، ولكنها لن تكون بشكلها الحارق والمباشر، نظرا لتعقّد المشهد الدّولي، وخروج التقنية عن السيطرة.

تتّجه أنظار الغرب إلى أشكال جديدة من تدبير خرائط المستقبل، وتجديد تقنيات السيطرة الجديدة. تبدو القوة الإمبريالية في منعطف جديد يقتضي تغييرا جذريا في الأداء، وأيضا ثمّة أنماط جديدة من الطاقة والتقنية تراهن عليها الإمبريالية الجديدة، بموجبها يحدث الانقلاب الكبير في دورة الاستهلاك العالمي.

إنّ المنعطف الجديد يرمي إلى تكييف التقنية الجديدة بالطاقة البديلة، بينما دخلت الطاقة النووية في خدمة الصناعة الثقيلة منذ عقود، فمن ليس له مكان في النادي النووي سيرسم لنفسه مصيرا جديدا من التبعية. سيجد العالم نفسه أمام حاجات جديدة، ستسعى الإمبريالية إلى احتكارها. القوى الصاعدة في العالم تدرك أنّ الآتي لا يتعلق بإعادة انتشار القوة، بقدر ما هو تحوّل في أنماط الاستهلاك والسيطرة. الرأسمالية هي نفسها كالفينيق، الطائر الغرائبي الذي ينبعث من الرماد. حقبة مضت وأخرى آتية بعجرها وبجرها، الرأسمالية المتوحّشة ذروة النمط الرأسمالي القديم الذي سيفسح المجال لنمط رأسمالي أكثر غواية ونعومة.

لن يمر هذا المنعطف من دون استحقاقات وخيمة، لا سيما على المنظومة الثالثية، حين تصطدم بالشروط الجديدة التي ستزداد أمامها تبعية للمركز الجديدة. صراع روسيا والصين مع الغرب هو صراع حول تلك الشروط الجديدة واستحقاقاتها القادمة، هناك تبدو أوربا قارة في مدارك التبعية الجديدة، بينما دول الجنوب هي اليوم خارج التغطية بامتياز.

استعجال دبكة الانتصارات قبل بروز ملامح النظام العالمي الجديد ، لا سيما في شقه الاقتصادي، وقبل تشخيص المواقع الممكنة في النظام الجديد، استعجال انفعالي ليس إلاّ. الاستشراف والمنظور الجيوستراتيجي الذي لا يستحضر الوضعية الأنطولوجيا للعالم، ودور التقنية في رسم معالم إنسان المستقبل، هو استشراف ومنظور غير واقعي، يستجيب لتمنِّيات ذات تلعب خارج الملعب التّاريخي.

وفي هذا السياق، يبدو الوضع العربي غامضا أمام هذه التّحوّلات. فالكتل المالية المتمركزة في جغرافيا النّفط، مهدّدة بالاستنزاف، من حيث هي كتل مالية مرتهنة للسياسة الاقتصادية الدولية. ومع المنعطف الجديد ستجد نفسها مُحتواة ضمن الأنماط الجديدة، لكن مع فقدان الطاقة التقليدية قيمتها ستصبح في عداد الفحم الحجري زمن القطار البخاري، ستتبخر تلك الكتل المالية في ليلة سهر واحدة في كازينوهات الرأسمالية القادمة. فالكتل المالية المتمركزة في الجغرافيا النفطية العربية هي كتل غير تنموية بشروط المنعطف الرأسمالي الجديد.

حتى منطق التحالفات سيشهد تحوّلا وفق مقتضيات وشروط إنتاج الثروة في المستقبل، أي سيكون هناك تغيير في هندسة التحالفات والمحاور الجيوستراتيجية القادمة. لقد مرّت حقبة على العرب، لم توفر لهم الطفرة النفطية فرصة لبناء وحدات اقتصادية فائقة. اكتشاف آبار جديدة للنفط هو في هذا المنظور عملية استدراكية في الوقت بدل الضّائع، لكنها لن تحلّ سوى أزمات محدودة ذات طابع اجتماعي. وفي هذا السياق أيضا، ستكون الدول العربية الأكثر قدرة على التدبير خارج السياسة الريعية التي فرضتها الطفرة النفطية، حيث تستطيع الإندماج بشكل من الأشكال في المنعطف الجديد، وإن كانت الوضعية العربية الهشّة قد ساهمت في إضعاف نفسها سياسيا واقتصاديا، لأنها لم تنهج سياسات واقعية وعقلانية. لقد أهدر العرب كل إمكانياتهم في التّآمر البيني، وخصصوا القسم الأهم من مردود الطاقة في التخريب الذّاتي، هكذا لم يستطيعوا أن يتحولوا إلى دول صاعدة. وكان بإمكان العرب أن يستغلوا قواهم المادية والرمزية لبناء سوق عربية مشتركة وتأسيس قوة سياسية تحمي إمكاناتهم الاقتصادية، الشيء الذي لم يحصل. كما أنّ وجود كيان إسرائيلي غير طبيعي في قلب العالم العربي، ساهم في إضعاف العرب، وهو كيان استغلّ ضعف العرب وشقاء سياساتهم البلهاء في مزيد من تخليفهم.

إنّ المعضلة العربية المزمنة شديدة التعقيد، وهي لا زالت حائلا دون تخطّي العرب لتخلّفهم. فالمجال العربي الغني بالموارد الطبيعية والبشرية، ضيّع عقودا من زمن التنمية، ولا زال يعبّر عن تخلّفه بمستويات مختلفة.

 

ننظر إلى العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كما لو أنّها حرب كسر العظم بين الروس والأمريكيين، ونقرأ في الأرقام تراجعات في إنتاج الثروة وتوزيعها، وكأننا نقرأ المنعطف القادم بمناهج ولغة النظام القديم. هذا في حين تمثل تلك العمليات العسكرية فرصة تاريخية أكثر ما تكون فرصة جغرافية، لتعزيز أنماط القوة القادمة في عالم الغد.

 

المعركة بين الغرب وأوراسيا، تحتاج إلى مساحة جغرافية لتنفيذ ضربات الجزاء. الأقطاب الكبرى تهيّأت منذ فترة لهذا المنعطف الجديد، وسوف يجدون مخرجا تمليه الرغبة في توازن القوة في شروط وأنماط لم نقرأ بعد سيناريوهاتها. إنّ تخلفنا لم يعد تخلفا بشروط النظام العالمي القديم، بل سيصبح تخلفا مضاعفا سندرك ملامحه وعناصره في صدمة المنعطف الجديد. بعض العرب يفكرون بطريقة قديمة سواء في أنماط تحالفاتهم أو أنماط مناكفاتهم. ويبدو لي أنّ ثمة دولا عربية أشبه ما تكون بديكة ترتعش بأجنحة ضامرة في بيئة جيوستراتيجية حارقة. ولا زال العرب يعتمدون مقاربات ساذجة وغبية في فهم ومعالجة الصراع. وأنماط التفكير المستقبلاتي والجيوستراتيجي وحتى السياسي لا زالت محكومة بالجمود والتكرار وليالي الأنس بالأوهام؛ لازال الضجيج والصّراخ يغلب على التفكير الاستراتيجي، كما لا زال المصير مرتهن للسمسرة والزّيف وغياب العمق والاحترافية في العمل السياسي الداخلي والدولي، يغلب على الفاعلين مقولتين:

– فاتهم القطار

_ وصلوا متأخرين للمحطّة

بعض الأفكار يصلون إليها متأخرين، وبعضها ينفتحون عليها بعد فوات الأوان. الزمان غير مُعتبر في تدبير المشاريع الكبرى، بل أكاد أجزم أنّ معضلة العرب اليوم تتعلق بما أسميه بمعضلة زمن المفاهيم، إنّهم -كما ألاحظ ذلك سواء من زاوية تدبير المفاهيم أو المواجهة- يفتقرون إلى الحدس وإلى ملكة التوقيت(Timing).

المجال العربي رهينة للانتهازية والجهل والتخلف. كل شيء بات عُرضة للزيف والانتهازية حتى مشاريع الإنماء والتحرر نفسها. لا يمكن للمجال العربي أن يُرتهن للمافيا أو أن يستمر مزرعة لنابتة الجهل والوصولية؛ فالتخلف التربوي، وغياب المنظور، جعل المستقبل العربي أكثر غموضا، إذا لم يلتفت المعنيون بالتغيير إلى خطورة هذا المأزق، ويصلحوا ما أفسده الدهر من أحوالهم، وهذا يتطلّب شجاعة فائقة ووعيّا عميقا وذكاء يخترق تبلّد الضمير، وإلاّ سينقرض العرب إن هم مضوا على الأنماط نفسها في الفكر والسياسي.

كاتب من المغرب.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار