جميل قاشا وفن النحت.. إبداع ينطق به الحجر
بارعة جمعة
لم يبدأ حياته نحاتاً، بل داعب الحصى الصغيرة بسكينٍ التقطها من الأرض آخذاً بها إلى أشكال طبيعية عفوية تمثلت بوجوه بشرية، فكانت هذه الخطوة الأولى التي جعلت لتوجهاته الفنية هوية ارتبط بها هو ومحيطه الذي لاقى منه إعجاباً بهذا الهوى العبثي المبكر.
واليوم يقف جميل قاشا بين أعماله المتنوعة ضمن صالة “جورج كامل” بدمشق ليكمل مسيرته الفنية بأعمالٍ مستوحاةٍ من عمق الطبيعة الأم، واصفاً إيَّاها بالمعلم الأول للإنسان، ومستنيراً بما ترويه حكايا الماضي عن الحيوانات التي رمزت في بعض الأحيان لحدَّة الوصف وبُعدِ النظر في قراءة المستقبل البعيد، وإذا ما جُلت في نظرك بين الأعمال فستجد عناصر الطبيعة الحية ممثلة بطائر “البومة” رمز المعرفة التي شغلت الحيَّز الأكبر منها، مجسِّدة واقع الإنسان المتردي، الذي لم يسمع لتحذيرات عدة من محيطه الطبيعي ضمن إشارات محددة أنذرت بكوارث مختلفة، كان من الأفضل الامتثال لها والأخذ بها من باب الحيطة والحذر، والتي كشفت قدرة النَّحات على تطويع المادة وتجميعها وتطعيمها من حيث الملمس شكلاً، الذي كان أقرب للواقعية، وباعتباره نذير شؤمٍ لدى الناس، كان مجسم البومة بمنزلة دعوة من الفن لأخذ الحذر والعمل على الإصلاح، لما تم تخريبه في جسد الطبيعة والانسان المقاومين لكل تقلُّبات العصر، في حين لجيوش بيزنطة القادمة إلى الحروب بكامل جاهزيتها واستعدادها النصيب الأكبر من المجسَّمات المعدنيَّة، التي تُعيدك إلى زمن الروم والفرس، وحروب العرش التي تظهر طمع الإنسان في مشاهد مثلتها تلك الفترات، والتي باتت اليوم ضمن أروقة صالة “جورج كامل” توقظ داخل كل من يشاهدها نزعات الحروب والتهيؤ للخراب، بدلاً من الإعمار والرخاء، لنجد الفنان قاشا آخذاً بالمتلقي لاكتشاف مساوئ واقعه المتكررة في كل الأزمنة والعصور القديمة والحديثة.
إلا أن معرض الفنان قاشا لم يقف عند حدود النحت، بل تعدَّى هذا الفن لاكتشافات حيويَّة خاصَّة بالحجر والمعدن، المُستخرج من عمق الأرض، التي اعتمدها الفنان من حجارة نهري “العاصي والكبير الشمالي”، اللذين اكتنزا الكثير من الاختلاف والتنوع بعد خوضهما حروب الأرض والأزل، ما جعل منهما أكثر قدرة على الصمود أمام تحولات أفكار وإبداعات قاشا، باحثاً من خلالها عن حكاية مختلفة عما يعيشه الناس في أيامهم المتشابهة من حيث الآلام والخيبات، ومترجماً تلك القصص بتفاصيل متقنة ولمسات إبداعية، إما بإضافة أو حذف شيء من الحجر الصلب المتمثل بقوة الإنسان، آخذاً بنا إلى زمن الحكايات القديمة التي تروي أسطورة الحيوان، وإلى مزيجٍ من الخرافات والاستعارات والإشارات، التي تروي علاقته المميزة مع الطبيعة الغنيَّة بتفاصيل الأرض، التي تحوَّلت أيضاً بين يديه لحُليٍّ وجواهر نفيسة، استمدت ألقها وقيمتها الكبرى من حجر الصوَّان والأحجار البللورية.
وفي نظرةِ تأملٍ طويلة لما قدَّمه ويقدمه الفنان جميل قاشا عبر رحلته الحافلة في عالم الإبداع، تراودك تساؤلات عن كمية الصبر التي يحتويها هذا الفنان لإكمال مهمته وقصته مع التحولات والتبدلات الحيوية، ومن ثم إخراجها بأبهى صورة بعد سلسلة من العمل، استغرقت قُرابة السنتين، تبعاً لنوعية القطع وعدد الأفكار المرهونة لها، وماهيَّة القضايا الاجتماعية والتاريخية والإنسانية التي تنطق بها هذه التحف بأساليب منوَّعة، آخذاً منحىً تجريديَّاً ورمزيَّاً ذا بُعدٍ بدائيٍّ ولمسات من المدرسة الواقعية، مُشكِّلاً بوساطتها بصمةً وهويةً خاصَّةً به، التي جمع من خلالها بين تماثيل نصفية أغلبها لنساء وكائنات من البيئة كالطيور والخيول، فكانت خليطاً إبداعيَّاً بين عمق وأصالة جوهر الحضارات القديمة وجمالية ومواكبة الأعمال التجريدية المعاصرة.