تموز أريج بوادقجي الذي يرتجفُ برداً
راوية زاهر
“تموز يرتجف برداً”.. مجموعة قصصية للقاصة أريج بوادقجي صادرة عن وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، وحازت بوادقجي جائزة في اللغة العربية وآدابها بجامعة حلب، وعملت أمين تحرير لمجلة أسامة منذ سنة ٢٠١٤م، ثم رئيس تحرير للمجلة منذ سنة ٢٠١٨م، ولها العديد من الإنجازات في مجلات الأطفال،
كما صدرت لها عدة كتب عديدة بهذا الخصوص.
و”تموز يرتجف برداً” مجموعة قصصية اجتماعية ضمت إحدى عشرة قصة قصيرة متنوعة، غاصت في عمق واقع يلفه الحزن والفوضى والتهكم والخيبة
بأسلوبٍ رشيقٍ ساخرٍ تارةً، وتراجيدي تارةً أخرى، وقد رافقت الأسلوبين لغة بسيطة،
ويأتي عنوان المجموعة ليغوص بكليته في عمق الواقع الذي ينبئنا بأحداثٍ شائقة، تسودها التناقضات والأفكار الغامضة المفتوحة بعبثية ثقيلة على كلِّ الاحتمالات.. فتموز هذا الشهر القمري اللاهب، الذي تصلُ فيه الحرارة إلى ذروة الارتفاع، أي حمى جنونية أصابته حتى بدلت نيرانه برداً، وما رافقه من اختلاج جسدي وارتجاف غامض.. هو إجراء تقليدي في اختيار العنوان الذي يعود إلى إحدى قصص المجموعة، وفي أنسنة مميزة ألبستها الكاتبة لهذا الشهر وتركته يدخل ويخرج ويختار الأمكنة والأصدقاء، ويصاب بالحمى.. وما بين قصص الاغتراب كقصة “النواس” و”ورد” العائدة من سفرها مثقلة بالهدايا والحب والحنين لأختها وأخيها وجارتها التي كانت تغدقها برسائل السلام والصباح والجمعات المباركات، تأتي محملة بالحنين وتعود محملة بالخيبة والصور، فإخوتها وعائلاتهم لم يجدوا وقتاً ليبادلوها الشوق وإطفاء سعيره، و”أم حسّان” جارتها ما هي إلا رقم مخزن في ذاكرتها وجوالها.. لتحدّث نفسها في مونولوج داخلي شفيف وحزين موجه إلى قلبها المعلق كالنوّاس في رحلة الذهاب والإياب على حدٍّ سواء: (كنت أتعثّرُ به تارةً، وأدعسُ عليه تارةً أخرى، لكن لا مشكلة فقد اقتربت من وجهتي، وفور وصولي سأتزن، وسأرمم ما أصابه من آثار الدعس).
كما تنوّع المكان في قصص بوادقجي بين المطار والحدائق والمسرح وعيادة طبيب الأسنان والشوارع والمحكمة وأماكن العمل، لترتبط هذه الأمكنة بتقنية، وبأحداث القصص وعباراتها السردية ذات الأحداث الصاعدة والصراعات الداخلية والخارجية، فالفعل الصاعد مرتبط دائماً بتحريك أحداث القصة قدماً، والحدث الصاعد يسيطرُ على الجزء الأكبر من القصة.
واعتمدت الكاتبة اللغة السهلة البسيطة البعيدة عن التعقيد والمبالغ فيها في محاولةٍ جادة لإيصال الفكرة الرشيقة إلى المتلقي، ناهيك بميلها إلى استخدام الأساليب البلاغية التي تميلُ إلى السخرية والتهكم، ما يضفي قبولاً إضافياً للأحداث، وكذلك استخدمت بكثافة الأمثال الشعبية لرصد تفاصيل الواقع بدينامية مميزة، ولم يكن هذا النوع من القص موجهاً إلى فئة نخبوية بالمطلق، بل لذلك القارئ العادي فيستسيغها وتثير متعته: (جاءت الحزينة لتفرح فلم تجد لنفسها مطرح)، (الطبيب خريّج برّا)، (لو كان فيه خير ما رماه الطير).
ولا يخفى على القارئ الحس الموسيقي والقاموس الغنائي الذي مالت الكاتبة لتبنيه بمشهدية لطيفة؛ كأغاني فيروز الشعبية والموشحات التي اشتهرت بأدائها: (أنا عندي حنين مابعرف لمين)،(جادك الغيث إذا الغيث همى.).
بينما برز الوصف جليّاً في القص ليرتبط بالشخصية بشكلٍ مباشرٍ، ويعطيها أبعادها السيكولوجية ويوضح علاقتها بالمكان.. كما ورد في قصة (معلقتان بين السماء والأرض): “كانت دانية تدور كالدراويش، تدور وتحلق في السماء وقدماها الناعمتان الصغيرتان على الأرض وحولها ثلة من المزغردين الهائجين المهللين).. هو يوم فرحها الذي انتهى بها معلقة على مصيرٍ غامضٍ.
وفي النسيج اللغوي لا تأتي الصورة ترفاً فنياً؛ ولا عبثاً؛ بل هي مكوّن أساسي من مكونات النص الأدبي، ولها وظائف مرتبطة بالحدث الواجب تقديمه على غيره.
وكثرت الصور البلاغية في سياقها السردي الفني والانزياحات والاستعارات اللغوية والدلالية وما قد تتركه من أثرٍ ومشاعر في نفس المتلقي، وذلك في محاولةٍ لتطويع اللغة في خدمة الفكرة وتقريبها من الذهن وتحميلها طاقات شعورية هائلة تخدم السياقات المطلوبة: (كادت الحقائبُ تنفجر ربما من شدة الضحك أو شدة الامتلاء) كناية عن كثرة محتوياتها، وفيها شيء من التبهيج والسخرية.. (جلس الجميع والتهمهم الصمت، (زمهرت عيناها) كلها استعارات مكنية تميلُ إلى التشخيص والأنسنة، أضف لاستخدام التشبيه: (حديقة مفتوحة واسعة كحضن أم).. ليسيطر المجاز بكلِّ جماليته على المشهدية القصصية خادماً مرادات الكاتبة.
أما الحوار فقد تميّز برشاقته بين الشخصيات، وتنوعه بين حوارٍ مباشر كالحوار الذي دار بين” قمر” وزوجها في
( قصة ضياع أنيق)، وفي (قصة لطم وندب) بين الموظفة صاحبة الترقية وزميلها الماكر.. وحوار المونولوج كما في قصة (تموز يرتجف برداً)، وكذلك حديث “قمر” في (ضياع أنيق) مع نفسها طوال فترة الانتظار التائهة لزوجها المستهتر.
لينتهي حديثنا بمتعة الاستسلام لأيقونة الجمال المتنقّل بين أحداث القصص، ومشاركتنا لتموز الذي لايزال حتى النفس الأخير يرتجفُ برداً.