على إيقاع النحاس
هكذا سيّرت المصادفات لشيخنا الجليل الخليل بن أحمد الفراهيدي (718م-786م) لأن تقوده خُطاه، أو ربما هو قادها مُتعمداً، أن يمشي الهوينى في سوق الصفارين النحاسيات، أقول الهوينى، ذلك إنه لو كان يمشي مُسرعاً كان يستحيل عليه أن يتنبّه إلى آليّة الطرق المتناسقة التي يقومُ بها النحّاسون في ذلك الزمن العتيق، أصوات بأنغامٍ تكادُ تكون إيقاعية، وهنا في سوق النحاسيّات هذا، وبما يُشبه اكتشاف نيوتن بعد سقوط التفاحة على رأسه؛ لمعت في ذهن الفراهيدي فكرة الإيقاع والعروض في الشعر العربي، وليتيقّن من مراتب التصويت وتركيباتها، يُحكى أنه كان ينزل إلى بئر داره ويُصدِر أصواتاً بنغمات مختلفة، ليستطيع تحديد النغم المناسب لكلّ قصيدة، من هنا يُصنف على أنه أول واضع لعلم العروض، مُعتمداً بذلك على افتراق التصويت والإيقاع في النتاج الشعري ما قبل الإسلام، ذلك أنه جمع كلَّ ذلك النتاج، ومن ثمّ عكف على قراءته، ودرس الإيقاع والنُظُم، حتى تمكّن من ضبط أوزان خمسة عشر بحراً، نعم حينها ورغم كل الإنصات والتأمل في أصوات طرق النحاسين، ورغم كل نزوله وصعوده في البئر، وإنشاده الأبيات الشعرية داخل البئر والإصغاء لصدى وأصداء التفعيلات، حتى شكّت زوجته -مستحيل ما يكون متزوج- في قواه العقلية (الأخيرة من عندي وليس حسب الحكاية التاريخية)، أقول رغم كل ذلك الجهد والعناء، فإنه لم يستطع أن يوزن سوى في خمسة عشر وزناً، والتي سُميت بعد ذلك بالبحور، أما واضع البحر الأخير فكان تلميذه سيبويه الأخفش الأوسط، ولا أدري إن كانت خُطاهُ تقوده إلى سوق النحاسين، أو كان ينزل ويصعد في البئر، لكنه غالباً كانت لديه زوجة تشكُّ بقواه العقلية حينما اكتشف، وهذه المرة على طريقة أرخميدس البحر المُتدارك.
وبعد مرور عقود طويلة على اكتشافات بحور الخليل وتلميذه سيبيويه مُكتشف البحر الأخير، سجنا خلالها مئات الشعراء في أقفاص بحورهما، حتى كان أن استنفد هذا الشكل الشعري –الموزون- كل جمالياته حين وصل إلى قممه مع أبي النواس والبحتري ومن ثم المتنبي وأبي تمام، وحتى أواخر النصف الثاني من القرن العشرين عندما حاول شعراء الكلاسيكية الجديدة حقن هذه البحور بمياهٍ عذبة لكنها كانت محاولة دائرية سرعان ما انغلقت على نفسها، في موازاة ذلك كان ثمة شعراء مناضلون قد قطعوا شوطاً بعيداً في قصيدة النثر، والتي كانت سبقتها عتبة قصيدة التفعيلة.. المحنة اليوم ثمة من يحن إلى الأقفاص، لكنه هذه المرة استعان بأقفاص اليابانيين، تحديداً منجزات شيخنا (باشو) أو ماتسوو مانوفوسا (1644م-1694م) مؤسس فن الهايكو الذي يقوم على ضوابط أشد في المقاطع الصوتية (5-7-5).
هامش:
في
الدفاتر البعيدة
البعيدة؛
كنا
خطونا لأجل “الألف ميل”،
لم
تذهب الخطوات بنا بعيداً؛
كانت مراوحة
في المكان.