كان المهرجان صاخباً بتعدد احتفالياته: رياضاتٌ متنوعة في الملاعب والقاعات المغلقة، الغناء المسائي والليلي، معارض الفن التشكيلي مع الرسم والنحت الآنيّ، والملتقيات الحوارية في السياسة والاقتصاد والثقافة، والأماسي الشعرية، والحفلات في الهواء الطلق، وإن افترق ذوو الشأن الاحتفالي في المساء، للقاء الجمهور، التقوا في بهو الفندق صباحاً يشربون القهوة ويتواصلون ويتعارفون ويتبادلون أرقام الهواتف، فهم آتون من بلاد متعددة وبعضهم عرف الآخر من عناوين كتبه أو لقاءاته الإعلامية!
في هذا الجو الاحتفالي الصاخب تدخل شابة بيدها آلة تسجيل وتجيل البصر في الوجوه ثم تعثر على رجلٍ أشيبَ الشَّعر يجلس منفرداً وبيده فنجان قهوة يشربه على مهل. تقترب منه وتسلم عليه وتجلس بجواره بثقةِ ضيفٍ مرحَّبٍ به فيبدل الرجل جلسته وينتبه: -أستاذ، أريد إجراءَ حوارٍ معك. ثم تلقي أول سؤال وهي تفتح آلة التسجيل دون أن تنظر إليه: -ماذا تشتغل حضرتك؟ بالإخراج أم بكتابة الأغاني؟
حصل المشهد أمامي وقد حسبته لثوانٍ مشهداً هزلياً في مسرحية مرتجلة، فالرجل واحدٌ من أهم الشعراء المعاصرين في بلده وبين المدعوّين، ولم يتركني أتخيل ابتسامة أبوية تصدر عنه وتقدم معلومات سريعة للمحاوِرة، لأنه انتفض غاضباً وقال لها: -انصرفي وقولي لإدارتك أن تُعِدّ عامليها وتدربهم كما يجب! وحيث بقيت هي جالسة وأصابعها على مفاتيح آلة التسجيل، تركها وانصرف عابراً البهو باتجاه نافذة البحر العريضة…
معضلة الأسئلة ستبقى ماثلةً بين المُحاوِر والضيف ما دام الإعلام يحمل على كاهله مهمة اختراق عالم الثقافة، وهي معضلة قلما تكتمل داراتُها التي يُفترض أن تنغلق على مذخّرٍ وأسلاكٍ ومفتاحٍ ومصباح، وحتى لو كان المفتاح على غيرٍ شاكلة الصبية الجاهلة التي خدعتها المرايا فلم تتبصّر من هو الضيف، لتختار الأسئلة على الأقل، إذ لا يستوي هنا الشاعر مع المخرج أو كاتب الأغنية العامية، فإن مسألة الحوار هي علمٌ قائم بذاته يحتاج إلى دُربة الاطلاع الواسع على الاختصاص الأدبي أو البحثي ثم على مستوى الضيف لتكون المذخّرة مليئة بالطاقة حين تضيء المصباح أو الضيف! ولطالما جرت حوارات بذل فيها الضيف جهوداً جبارة ليتخطى سذاجة أسئلة المحاوِر أو سطحيتها وعموميَّتها، إما لقناعته أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، أو مجاملةً للمحطة والعامل فيها! لذلك كان للحوار نجومُه كما لكل أصناف الإبداع وهم قلة أيضاً ككتاب المسرح والرواية والإخراج والتأليف الموسيقي، بل هم أقلُّ من القلة، ولذلك أيضاً تتلاشى آلاف الحوارات كأنها ما كانت، ويبقى أنجحُها، بسبب الاختصاص، ماثلاً وقيّماً بحيث يُطبع ويضاف إلى تاريخ المبدع كحوار ” ماريو فارغاس ليوسا” مع “خورخي لويس بورخيس” وكلاهما علَم يعرف جيداً أهمية السؤال ولماذا ومتى يُطرح، وليس عسيراً أن تؤخذ الحوارات بهذه الأهمية حتى لا تبقى الدارة معطلة والمرايا مهشّمة أو ملتبسة الصور…