في «وجوه بلا ملامح».. عدنان كنفاني المسكون بوجع الأمكنة
راوية زاهر:
«وجوه بلاملامح» مجموعة قصصية للأديب الراحل عدنان كنفاني، الصادر عن منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، وتضم بين دفتيها سبع عشرة قصة يدور رحى ألمها بين دمشق – مخيم اليرموك، وغيره من مخيمات الشتات الفلسطينية الأخرى.. وتأتي « وجوه بلا ملامح»، بعد أعمال كثيرة أتحف بها كنفاني المكتبة الثقافية، ودور النشر بإبداعات منوّعة بين قصص وروايات وشعر ومسرح.. و« وجوه بلا ملامح»؛ يُعدّ عنواناً مستوحى بطريقةٍ تقليدية من إحدى قصص المجموعة، حاملاً ببعده التأويلي قضايا الوجع لبلادٍ غيرّت الحرب ملامح وجودها، وألبست وجهها رداء الشقاء الأبدي، وأعادت تحميل أهل الشتات عبء شتاتٍ أوجع، وما بين جنون المسعورين في الأرض المحتلة، وجنون الخارجين عن المكان.. كاد أن يكون واحداً، أو على الأقل هي ذاتها أماكن الفوضى والحرب والنزوح، أضف لجدران الزنازين، إذ تدور أغلب القصص العائدة إلى الأرض المحتلة لوجود أبطال – زمن الفدائيين الذين قضوا بين ظهراني السجون والمعتقلات سنيناً التهمت أرواحهم، وأحاطت بحرية أجسادهم؛ سواء “مُختار” كما في قصة “بدنا نعيش”، أو “عبد الجليل” كما في قصة “ورق أخضر”، وغيرهما.. وقد برزت ازدواجية المعايير كما عند “أمجد” الذي غيّر جلده بعد رحيله عن فلسطين، حيث مشى الحدث متسلسلاً في قصة « وجوه بلا ملامح»، التي حملت اسم المجموعة كلها، ومتصاعداً وبحبكةٍ محكمة، ناهيك باستخدام الكاتب لتقنية الصراع السردي بجماليةٍ عالية الحضور حيث دائماً (دمشق هي المكان الكبير الذي يدور فيه الحدث)، والمُخيّم هو جزء من المكان – العام الذي انسحبت عليه الأحداث، ودارت فيه فواجع الحدث.. فيما تناوبت الشخوص بين وجوهٍ تحملُ بذرة التنوير والبناء والحوار، وأخرى أرهقتها الحاجة، ولا تعي قيمة وجودها إلّا عملاً أتقنته في صنع السواطير وصقل المعادن، ليخرج الولاء عن حدوده متجاوزاً مهنة الوفاء للمعدن، إلى وفاء للسواد وأسياد الظلام الذين يدَّعون تنفيذ وصايا الإله، والحصيلة قطع رأس الأخ على يد حسن بفأسٍ أجاد صنعه واستعماله.
الوصف..
لم يكن، أو يأتي الوصف في المجموعة شيئاً مترفاً يرميه الكاتب جزافاً، بل هو تمهيدٌ لظهور شخوصٍ ارتبطوا بالمكان بشكلٍ مباشر: (حسن وسليمان من قريةٍ تنامُ على كتف جبلٍ أشمّ، تصحو على فرح الضوء، وتنام على هديل الحمام.)، أضف لوصف حالة مُخيّم اليرموك قبل اجتياح قوى الظلام له، وما آلت إليه بعدها من انتشارٍ للبؤس والقتل والخراب.
اللغة..
جاءت اللغة في قصص المجموعة باذخة، ذات ألفاظٍ جزلة وموحية، وخواتيم تميلُ في جلّها إلى الإبهار والدهشة.. مال فيها الكاتبُ إلى الصور والانزياحات والاستعارات والإضمار والكنايات التي تفتحُ النصَّ على تأويلاتٍ وجمالياتٍ مذهلة، تثيرُ مخيلةَ المتلقي، وتفتحُ آفاقَهُ للتأويل الجذاب، وذلك بملء بياضاتٍ متروكةٍ للتخييل: “تشدّعلى يدي، ثم تطعن الأرض بناظريها”، “المساء أرخى جدائله”، “أبوابٌ تنزُّ بؤساً”، والتشبيه من قبيل: “تتهاوى الدار كأنها أعجاز نخلٍ خاوية”، و”نبت الرجل في الحيّ” كنايةً عن حضوره المفاجئ.. أما الرمز؛ فله حصته الفائضة، إذ استخدمه الكاتبُ بقوةٍ، فرمز الكاتبُ للصخرة السوداء التي دفنها الجد قبل تهجيره لأنه عاجز، وقال إنها ستنبت كما الفطور.. والصخور في دلالة إلى الاستمرارية والبقاء والتشبث بالمكان.. وفي قصة “البطل”؛ استخدم كذلك الرمز من خلال تحوّل الكلاب إلى ذئابٍ مسعورةٍ طالت أنيابها وتوحشت مخالبها، في إشارة رمزية إلى العدو.. كما رمز إلى الإر*ه*اب الذي انتشر في أرجاء المدن والصحارى والبوادي بالشيء الأسود.. وأخيراً لينتهي الكلام من دون أن ينتهي الوجع والشتات والقتل الممنهج أمام واقعٍ مرير فرض نفسه بضراوة على أهل الشتات بلا ملامح..