الأغنيـــة الضائعـة في مرجعياتهــا والموسيقا كانتماء لروح المجتمع
علي الرّاعي:
لا أعتقد أن ثمة إرباكاً أو ارتباكاً، أصاب إبداعاً ما، كما أصاب الأغنية في سورية والعالم العربي، هذا الإرباك الذي ينتابها، ويلفها من أكثر من صوب واتجاه.. ذلك أنها كانت على مدى السنين مُحاربة إما اجتماعياً، أو لجهة تجاهلها لمصلحة أنواع إبداعية أخرى، وكأن الاهتمام بالأغنية، على سبيل المثال، قد يلحق الغبن بالفنون الأخرى؟!، أو كأن الإبداع ليس كلاً متكاملاً، بمعنى النجاح في إبداع ما، يتمدد لباقي الفنون كما يحصل في الدول التي تحترم فنونها كل فنونها، وليس تحويل فن معين ليكون أشبه بـ «حديدان ميادينها».
ناس فوق وتحت
في العالم العربي، ولنأخذ مصر على سبيل المثال، باعتبارها الأسبق في تعريف العرب بفنونها، فعلى زمن أم كلثوم كان ثمة فصل، يكاد يكون حادّاً بين ما كانت أم كلثوم تقدمه خلال ساعاتها الطويلة على المسرح، ولمن كانت تتوجه بذلك الغناء القادم من أصالة ثقافية بكل الأحوال، والموجه لنخبة القوم بملابسهم الرسمية على وقع «عظيمة يا ست»، بينما كان سيد درويش يتوجه للناس البسطاء من “صنايعية” يُصحيّهم مع صياح الديك، الأمر الذي انقسمت معه الأغنية العربية حسب توجهها، ومن ثم حسب مرجعيتها، فالأغنية التي كانت تتوجه لـ «عليّة القوم» كانت مرجعيتها الإنشاد الديني وحلقات الذكر، يُضاف إلى أغاني أم كلثوم ما قدمه محمد عبد الوهاب وسواه، تلك «المدرسة» في الغناء التي كان لها فرعها السوري التي تمثلت بالقدود والموشحات الحلبية، بالوقت نغسه تشكل فرع آخر للغناء العربي تمثل بأغنية الأرياف الشامية التي يبدو كأنها تقوم على حقول من الثروات وهذا ما كانت ملامحه في الأغنية الرحبانية ووديع الصافي ونصري شمس الدين وعشرات المطربين السوريين الذين لم يتوفر لهم الحظ كما يجب ليقدموا كنوزهم، فلا تزال الذاكرة الشعبية تحتفظ بأسماء عشرات القوالين والمطربين وصلوا حد الإعجاز، ومازالوا مطربين كالوشم على ظاهر الذاكرة ك”أسد فقرو” جد المطرب الراحل فؤاد غازي.
من الداخل
الغبنُ الذي يغزو الإبداع الغنائي والموسيقي، مستمرٌ منذ زمن طويل، ولم ينتبه إليه أحد، فعندما كانت كوكب الشرق أم كلثوم تغني لكبار القوم و”البكوات”، كان المجتمع المصري يتألم ، وهكذا عندما كان يغني «شيوخ الطرب» في حلب، أنماط متنوعة ، وهكذا يصفون اليوم محمد عبده اليوم بمطرب الغناء العربي، في ظل واقع فوضوي ! إنه لأمر محزن، بل مخز، أن يُحارب مبدع بحجم سيد درويش، الذي عاش «32» عاماً فقط، قدم خلالها أكثر من «1000» لحن وأغنية، من أجمل الأغاني والألحان، ولا يوجد في مصر اليوم من يحمي هذا الإرث الذي تمّ التضحية به لمصلحة مغني وموسيقا البلاط.
أمام هذا التنوع كان على موسيقي سوري أن يقدم على مشروع يقوم على معالجة الفلكلور السوري بتنوعه وغناه، بصياغات جمالية جديدة، القصد منه الحصول على عمارة موسيقية منتمية، وهنا يذكر المؤلف الموسيقي مروان دريباني ل”تشرين” أنه حتى كبار المؤلفين الموسيقيين في العالم اشتغلوا على مثل هذا الانتماء، موتسارت على سبيل المثال ضمّن العديد من سيمفونياته الكثير من الجمل الموسيقية الفلكلورية، ذلك أن هذا الفلكلور الموسيقي تتم حمايته من الاندثار إذا ما ضُمّن ضمن السوناتات والسيمفونيات، ويضيف: بالشغل مع فرقة «زواريب» اكتشفت سورية الجميلة، بهذه الروح للمجتمع، وبالاعتراض الضمني للجمال الزائف، والحضارة التي ندعي تضليلاً أننا نحياها، ومن هنا كانت دعوتي لإعادة هيكلة الموسيقا السورية كانتماء، ووفق حميمية التفاصيل السورية والدفق العاطفي لروح المجتمع، وذلك حتى لا نقرأ «موسيقا مترجمة» مع أن الأصيل بجوارنا وبيننا.
الاحتفاء بما حولنا
أما الإصرار على مشروع كهذا ، يضيف دريباني: لأننا في كثير من الأحيان نحتفي بفلكلور ليس لنا، بل هو موسيقا الشعوب التي استعمرتنا، وهو فلكلور ضد التراث السوري، نحتفي بفلكلور كان يُغنى للسلاطين العثمانيين على سبيل المثال، وهذا ضد الانتماء الذي اشتغل عليه، لأننا بذلك كمن يتغنى بشيء ضده، وهو أيضاً لا يحتوي على قيم جماليات ناس المكان، فمع احتلال بغيض وطويل للأتراك تخرّب الكثير من الفلكلور السوري الغنائي والموسيقي، وتمّ تزييف الكثير منه حتى ظننا أن الدخيل أصيل!
لقد انتشر الزجالون في حين من زمن خمسينيات وما قبل وصولاً لبداية سبعينيات القرن الماضي في الساحل السوري وأرياف حمص وحماة ودمشق، لكنهم خلطوا بين إحياء الأعراس تحديداً والمزاج الشخصي، ومن ثمّ كانت «التناحرات» ، ومن ثم كان أن ضيعوا تلك الأعمال الفنية، ولم تتكرر ظاهرة: إبراهيم صقر، صالح رمضان، درويش حمود، وغيرهم، بل أغلقت دائرتها ببضعة “كاسيتات”. الظاهرة التي أتت فيما بعد لتحل في الفراغ السابق، وقع أصحابها في مشكلة حفلات الأعراس، وشركات الإنتاج، وزيف المهرجانات.