روايات عن مقالع الحجر
لبنى شاكر :
في روايةٍ أولى: “وقعت عليه صخرة، فقتلته”, هكذا تُختَصر حياةُ أحدهم، ولو شئنا إيجازها أكثر لقلنا “قتلته صخرة”, لكن الأمر لم يكن بهذه السرعة، يومها كان أكبر مقالع الحجر في ريف دمشق، يقع في وادٍ زراعي يُسمى “العراد” في بلدة “قدسيا”، تُستخرج منه الحجارة الكبيرة جداً، بعضها بطول أربعة أمتار، تُنقل بعربةٍ تجرّها عدة أحصنة، يُقال: إنها تُشبه العربة الخشبية المركونة في الرواق الشمالي للجامع الأموي، ومن ثم تُوزّع الصخور إلى أماكن محددة، للتكسير وإعادة التشكيل، وعلى ما يتباهى به كبار السن في البلدة، فالأعمدة التي يقوم عليها القصر العدلي في دمشق، مبنيةٌ من مقلع قدسيا.
ولأن للأمر روايةً أخرى، حدثت أيضاً: احتاجت زحزحة الصخرة، ساعاتٍ ورجالاً وحبالاً ودموعاً، وحين عاد الشاب محمولاً إلى بيته، كان في انتظاره أبٌ وأم، وإخوة، وفتاة، وقبرٌ مصنوعٌ من الصخر، وكلامٌ عن النصيب والخطأ والموت، ولومٌ للزمن والفقر والحجارة، ولأعوامٍ لاحقة، ستكون الحكاية عن “كيف تدحرجت الصخرة، كيف باغتته، كانت له أم وأصدقاء وحبيبة، لو كان له طفل.. مات شاباً، هل فجروا الصخرة يومها بالديناميت أم بالبوتاس، هل صرخ، هل تألّم أم إنّ المنية كانت أسرع ؟، وستُعاد مراتٍ ومرات، بالتفاصيل ذاتها، تزيد وتنقص، إلى أن يبقى منها القليل من الحقيقة، والكثير من الإضافات.
أما الرواية الثالثة، فتلتقي مع لوحةٍ رسمها الراحل نذير نبعة “1938 – 2016″، تحت عنوان “في مقلع الحجارة”، بعد زيارته الريف المصري، حيث أمضى شهراً في قرية “برقاش” التابعة لمحافظة “الجيزة”، رسم عمال مقالع الحجارة فيها، كمشروعٍ لتخرجه في كلية الفنون الجميلة عام 1964، نال عليه درجة امتياز, وفي اللوحة، يعتمد الفنان المعلّم، كما يسميه رواد التشكيل في سورية، تدرجاتٍ في ألوان الحجارة، سواءً التي يدوسها العامل أو يحملها أو تتوزع حوله، بين الأبيض والأصفر والرمادي والبني الفاتح، حتى إنه ينتبه إلى ضآلة حجمه، أمام الصخر المتجذر في الجبل، برغم ما أحدثه فيه من انقسامٍ وتجويف.
صوّر نبعة، العامل وحيداً تماماً، حافياً، فيما الحمل الثقيل على ظهره وكتفيه، انعكس امتلاءً وقوةً في جسده وأطرافه، إلى جانب، انحناءةٍ خفيفة في الظهر، وتباعدٍ بين الساقين، ليمكنه المشي، مُتمهلاً، على الصخور المتباينة في خشونة سطوحها، ومع إنّ ثيابه مغبرة، شبه مهترئة، لكن اللوحة لا تُوحي بفقرٍ أو ضعف، بل تذهب نحو ارتباطٍ غير مألوف، بين الهشاشة والصلابة، من دون تحديدٍ واضح للموصوف، الحجر أو ربما حامله، الكتف أم الصخر المُفتت، والأهم أنها لا تحصر نفسها، بمقلعٍ أو بيئةٍ مُحددة، كأنّ نبعة يُوجز الحالات كلها في واحدة، تخوض حروباً يومية، مع حجارةٍ كبيرة، لا يبدو واضحاً من المُنتصر فيها؛ الصخر المُتشكل من جديد، في كل مكان يصله، ولو مُهشّماً مكسوراً، أم أصحاب الديناميت والفؤوس والظهور المُقوّسة، والضحايا؟.