أبيّ حسن يُحاور هادي دانيال والنتاج كتابٌ في السيرة الغنية
علي الرّاعي:
ربما يكون هادي دانيال؛ من الشعراء القلائل والمُفكرين الذين لا ينكرون فضيلة النقد والنقّاد على ما قدموه من تنويعاتٍ أدبية وسياسية وفكرية، فهو يقول لمحدثه الزميل أُبيّ حسن عندما يسأله: هل أنصفك النقد كشاعر؟ ليُجيبه ب(نعم) مُستفيضة، وإنّ كتابته الشعرية لفتت نُقاداً وشعراء منذ صدور مجموعته الشعرية الأولى أوائل سبعينيات القرن الماضي إلى الآن..
وحوار الزميل أُبيّ حسن مع هادي دانيال ليس لمصلحة وسيلة إعلامية بعينها، ربما كان قد نشر منه في وسيلةٍ ما، وإنما كان حواراً خصّه حسن في كتاب، وحكاية الكتب التي يكون محتواها حوارات صحفية، ليست جديدة في عالم إصدارات الكتب، فقد سبق وأصدر الكثيرون كتباً محتواها حوار، أو مجموعة حوارات صحفية، كأن يجمع صحفي نتاجه من حوارات مختلفة مع أكثر من مبدع أو سياسي، أو كأن يجمع حواراته مع مبدعين من نتاج إبداعي بعينه، أو ربما العكس فقد يلجأ مبدعٌ ما إلى إصدار مجموع الحوارات الصحفية التي أجريت معه من صحفيين مختلفين حول تجربته الكتابية ضمن كتاب يشملها جميعها، وربما يكون لنا مقال خاص في حيثيات هذه الظاهرة.
وبالعودة لكتاب (صانع التبر الذي رأى – حوار مع الشاعر هادي دانيال) الصادر عن دار الشنفرى في تونس؛ فقد توسع الحوار ليخوّض بكامل التجربة الإبداعية للشاعر هادي دانيال، بل حتى الحياتية، وهو ما يُقربّه من أدب السيرة الذاتية إلى حدًّ بعيد.. ودانيال شاعرٌ ومناضلٌ سوري حمل قضيته الفلسطينية – ليس في الأمر خطأ مطبعي – تماماً كالقابض على جمرٍ في مختلف المنابر الفكرية والثقافية في العالم.. فهو السوري حتى آخر شهقة، والتونسي الإقامة، والفلسطيني صاحب القضية الذي لا يمل منُّ الدفاع عنها، عدّته في ذلك فكرٌ يساري لا يعرفُ انحرافاً، وخبرات ثقافية وفكرية كانت حصيلتها عشرات المجموعات الشعرية، وعشرات الكتب السياسية والنقدية، وآلاف المقالات الصحفية.. ومن هنا يبدو اتساع الحوار بين صحفي متمرس كالزميل أبيّ حسن، وبين أديب واسع المعرفة حتى ضاق بالحوار أي منبر إعلامي، ومن ثم لتتسع له دفتا كتاب.
وهنا سأبرز أكثر ما لفتني في الكتاب، فإذا ما تابعتُ الذي قدمتُ به من إشارة دانيال لفضيلة النقد عليه، فقد تناول تجربته الشعرية الكثير من القامات النقدية في العالم العربي، وأصدروا نتاجاتهم النقدية في كتبٍ عنها، منها على سبيل المثال: “هادي دانيال حمامة رصيف العالم – للشاعر التونسي وليد الزريبي، مرافئ أوليس اللاذقي: قراءة في الأعمال الشعرية لهادي دانيال- للناقد التونسي نور الدين الخبثاني، أحلام المُسافر: قراءة نقدية في عالم هادي دانيال الشعري- للناقد التونسي مصطفى الكيلاني، ومرآة لشعر وحياة هادي دانيال – للناقد والرسام العراقي حمدي مخلف الحديثي..
وهادي دانيال الذي خصص خمسة كتب في الفكر السياسي يفضح فيها ما دعتّه الولايات المتحدة الأمريكية وأتباعها ب”الربيع العربي” وزيف ذلك الربيع، غير أنه لم ينسَ في كلّ هذا التخويض الفكري والسياسي والسجالي أن يبقى شاعراً من دون أن يبتعد في شعره عن معاناة تلك التخويضات السابقة، وهو الذي يتفق مع أدونيس في أنّ القصيدة تعبيرٌ عن مُعاناة حياتية شخصية، وأنّ الشعر لا يكون إلا حيثُ المُعاناة، فهو يرى أنّ المُعاناة عرّابة الأعمال الإبداعية الخالدة بدءاً من ملحمة جلجامش مروراً بالأدويسة والإلياذة، والكوميديا الإلهية، ورسالة الغفران، ودنكيشوت، ومسرحيات شكسبير، وروايات دستويفسكي، وغيرها من الأعمال الشعرية والسردية التي عرفتها البشرية في عصورها كافة.. وبتقديره علاقة الإنسان المُعاصر اليوم بذاته ومحيطه الذي أفسده التلوث والتصحر، وبواقعه المتوحش اقتصاديّاً واجتماعياً وسياسياً، والماحل فكرياً ومعرفياً وإبداعياً، لا يُمكن التعبير عنها بخطابٍ جماليٍّ مُحايد، والذات الشاعرة معنيةٌ بالتعبير الجمالي عن مُعاناة البشرية بأسرها انطلاقاً من مُعاناة هذه الذات المبدعة.
من هنا، يعتبر دانيال نفسه من الشعراء الشغوفين بالشأن العام من دون اصطناع، فهو لا يكتب الموضوعي إلا عندما يتحوّل في وجدانه وعقله إلى شأن ذاتي، وتستجيب له أحاسيسهُ على هذا الأساس، ومن هنا يعتبر مدونته الشعرية وثيقة إبداعية عن عصره، فهي تتضمن جانباً من سيرته الذاتية في تشابكها مع الشأن العام، بل يُصنفُ معظمَ القصائد التي كتبها في السنوات الست الأخيرة تأريخاً شعريّاً للحرب الإمبريالية الصهيونية الرجعية الأعرابية والعثمانية بأدوات إرهابية من التكفيريين والمرتزقة والتي تستهدفُ سورية والعالم العربي وجوداً وشعباً ودولا.. وهذا ليس غريباً على شاعر بحجم هادي دانيال كان شاهداً بأم العين على منعطفات خطيرة في العالم العربي، وكان بحساسيته الشعرية العالية أن انجدلت حياته بحيثياتها كلها، لدرجة يصعب تمييز الذاتي والخاص عن الشأن العام في كل هذا النتاج الثّر لهذا الشاعر في مختلف تخويضاته الشعرية والنقدية والفكرية والسياسية.