الدكتور جمال شحيّد.. ورحلة الترجمة بين التهّيب والأدب العالمي
راوية زاهر:
«تقاسيم ترجمية» كتابٌ صادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب للدكتور جمال شحيّد الذي رأى في الترجمة مادة الروح المخدرة فتعاطاها مهنةً ما يزيد على أربعين عاماً ممارسة وتدريساً، فأغنى المكتبة العربية والعالمية بثلاثين كتاباً مترجماً، ومنها الكتابان القيِّمان المترجمان “السفينة” لجبرا إبراهيم جبرا، و”بريد بيروت” لحنان الشيخ من العربية إلى الفرنسية بشراكة إبداعية مع المستشرق الفرنسي الراحل ميشيل بوريزي.. وأغلبية الكتب المترجمة موزعة بين فكرية وفلسفية وأدبية ونقدية، ناهيك بمشاركته في المؤتمرات الخاصة بالترجمة, وفوزه بالعديد من الجوائز العربية والعالمية، وهو الحائز على دكتوراه في الأدب المقارن من جامعة السوربون ١٩٧٤م.
و(تقاسيم ترجمية) كتاب بحثي مبوّب بطريقة شائقة، وكلُّ باب فيه يفتحُ عليك الآفاق الواسعة التي ينغلق عنها عامة الناس، في اهتمامٍ ممنهج بالترجمة كمفهوم.. والمترجم والنص المترجّم، والمؤلف، والغاية من الكتاب ما هي إلّا محاولة حثيثة لتنشيط الترجمة في البلاد العربية.. ستة فصول بين دفتي الكتاب من البحث والتقصي، أولها في ثقافة المترجم.. فالترجمة هي إبحار بين قارتين أو لغتين وتقتضي من المترجم أن يكون بحّاراً رابط الجأش برغم أنواء بحرها الجارفة واعتلال الترجمة وانتكاساتها..
والأمم الأكثر ترجمة هي الأعظم حضارة وتطوراً.
وقد يجمع بين المترجم والمؤلف صداقات وعداوات، وبين الكاتب والمترجم علاقة مرآتية مركبة تخضع لطبيعة الكاتب والمترجم في آنٍ معاً، وكثيراً ما نجد المترجم يلجأ إلى المؤلف عندما تعترضه صورة لا يفهم أبعادها كما حصل مع منيوفسكي في ترجمته لأدونيس، ويبقى أن المترجمين هم الذين يحركون اللغة وينشطونها ويثرونها بمفردات وتراكيب كثيرة.. وقد نجد أنواعاً للمترجمين، فثمة شخصيات روائية عربية تمتهن الترجمة، ونقاد وأدباء.. تنوعوا بين مترجم غير مهتم بدراسة مناهج الترجمة وقواعدها وأصولها مكتفين بما ذكره أئمة العربية عن الدخيل والمُعرب، وما راج عن التصرف بالنصوص المترجمة الذي يعد عيباً أخلاقياً كترجمات فرح أنطون والمنفلوطي، قبل أن يتطور الأمر مع ازدياد الميل إلى الدقة في الترجمة مثل: أدونيس، وجبرا إبراهيم جبرا، وإدوار الخراط ، والطهطاوي.. ومن غير العرب: شارل بودلير، ستيفان مالارميه، ومارسيل بروست الذي وقف عنده الكاتب مطولاً مترجماً وكاتباً وباحثاً.. جاءت ترجمات هؤلاء على النفس الطويل مستغرقين سنين طويلة في إنجازها فجاءت متأنية، وفية وأنيقة.. وفي ثقافة المترجم عليه، أن يكون رجل انفتاح بين لغتين متباينتين، عالماً بانزياحات اللغة والألوان والمعاني وفصول التاريخ وتداعياتها حتى لا يقع في أخطائها التاريخية، وكذلك متمكناً من معلوماته الجغرافية، والأمور الدينية والدنيوية ودلالاتها المنزاحة معنوياً مع الوقت، والتطور والأدلجة والعولمة، والعادات والتقاليد وطريقة التعاطي معها لغوياً ما بين الثقافات والأمم، وقد أورد الكاتب ترجمات كثيرة لكتّاب وروائيين عرب وفرنسيين ومن المشارب كافة.
ومن معايير الترجمة؛ الدقة والتأني والتوثيق قبل نشر النص المترجم، وخير مثال المترجم المصري حسن عثمان الذي بقي في ترجمة “الكوميديا الإلهية” لدانتي زهاء (35) سنة تزوّد فيها بمعلومات فنية وأدبية واجتماعية عن عصر دانتي كما تزوّد بمعلومات كثيرة عن الشاعر نفسه فأتت ترجمته على درجة عالية من الدقة والإتقان، كما ركّز المؤلف على أدوات المترجم: المعاجم والموسوعات، واستخراج المعلومات من الأنترنت، واستشارة العارفين ولاسيما كاتب النص.. وعن علاقة المترجم الأدبي والكاتب تحدّث شحيد عن لعبة المرايا المتعاكسة وتداعياتها على الترجمة، فبعضهم يراها ناقلة للحقيقة، وبعضهم يراها أداة نرجسية أو اكتشافاً لأنا الآخر داخل المرآة، فالمرآة تعكس الصور, والمترجم يعكس النص بحيث يكون متكاملاً ومتطابقاً مع النص الأصلي.. وعن ترجمة القرآن إلى اللغة الفرنسية، وبعد قرون من الصدِّ والرد حول ترجمته، انتصرت الإباحة بجواز ذلك، وانتشرت الترجمات إلى لغات عديدة وتوجد الآن (400) ترجمة وقد حظيت الفرنسية بحصة الأسد وهي ثلاثون ترجمة.. كما تحدث الكاتب بإسراف عن صعوبات الترجمة في فصله الثاني، مُذكراً بقول نيكولا بوالو: “ما يدرك بيسر، يعبّر عنه بوضوح”.. إذ يفترض على المترجم أن يكون رجلاً عبوراً بين لغة وأخرى وثقافة وأخرى، وعليه أن يكون موسوعياً، أضف لعلاقة الترجمة سيئة السمعة بالسلطة والرقابة الدينية، وأسباب المنع الكثيرة لكتب الترجمة، تصل درجة الحرق والإخفاء واعتقال المترجم أحياناً كالمنع الديني والسياسي وإلاباحي في بلدان كثيرة..
ليكون خامس الفصول في الكتاب في أدوات الترجمة وإحصاءاتها، وآخرها في نصوص اختارها الكاتب بالفرنسية، وبما ختم المؤلف كتابه سنختم بعبارة مشهورة للكاتبة الفرنسية إلسا تريوليه قالت فيها: “الترجمةُ عملٌ شاقٌ، ومرهق، ومثير للأعصاب، وحافز على اليأس. وهي أيضاً عمل مُثرٍ، وضروري للناس، ويقتضي التفاني، ويثير الهواجس ويتطلب النزاهة، وبالطبع يحتاج الموهبة.”