عَصير قُرّيص

لا يحظى الكتاب بغلافٍ جذابٍ، حتى يصدق فيه المثل: “المكتوب يُقرأ من عنوانه” فحسب، بل تعمد دورُ النّشر إلى التعريف به على الغلاف الأخير بقلم كاتبٍ شهير يُفترض أنه سحب رحيق هذا الكتاب ووضعه في قدحٍ صغير يتناوله القارئ قبل أن يجوس بقدميه الحقل الواسعَ الذي أتاه طائعاً مختاراً أو مشتاقاً أو حتى بدافع الفضول!
كيف يتمّ هذا؟ لا شكّ أن “جامع الرحيق” قد نزل قبل جميع الزوار يتجول في الحقل يتبصّر التربة ونوعية الزرع والظلال وطرائق السّقاية وتوزيع الأحواض ليملأ القدح ويتركه على حافة الطريق لمن يهوى الدخول إلى جنان المطالعة! ولم يزعم هذا “الجاني” أنه ناقد، مع إن النقد في صلب تخيُّره لقطرات الرحيق وتمييزه لأفضلها كي تكون جديرةً بالقدح الصغير، لكن لطالما وقعت بين أيدينا كتب كانت التعريفات بها أبعدَ ما تكون عن مضمونها لأنها تعتمد الإنشاء العام، أو القالب الذي يتقبّل أيّ مادة لا تلحظ خصوصية صاحبها: روائيّاً، قاصاً، شاعراً، بواقعيةٍ، أو حداثةٍ، أو حتى بخيالٍ علميّ! إنها أشبه بالتسعيرة المطبوعة على لصاقة توضع على بضاعة مختلفة التفصيلات والألوان لكنها متساوية التكلفة ويحصل هذا غالباً في مطبوعات المؤسسات الرسمية التي تعتمد موظفاً يشرف على هذه المطبوعات، وهو يعلم مسبقاً، أن القيمة الحقيقية هي لسمعة المؤسسة الناشرة وفيما بعد للكتاب المنشور! أما في دور النشر الخاصة المتنافسة فظاهرة أخرى، تأتي بكاتب مشهور يثني على المؤلف الجديد، ويتلمّس له فضائل عبر إبراز فضائله هو بعد نَيْل الشهرة والمصداقية!
ملأ الكاتب المعروف أكثر من عشرين صفحةً بعد إهداء المؤلف، متحدثاً عن أهمية القصص التي ضمتها المجموعة وراوغ بين قصة وأخرى ناسباً إياها إلى مدارس أدبية شتى واستحضر بعض حكايات التراث العربي والأساليب اللغوية التي تبدلت عبر العصور ودلالات المفردات التي تغيرت بفعل الزمن والاستخدام! وكل ذلك لم يكن ذا علاقة بمتن المجموعة المتهافتة بعد قراءتها! لقد حمّلها الكاتب المشهور ما لا طاقة لها على حمله! فما الدافع إلى ذلك؟ المجاملة؟ إعطاء دار النشر جواز تسويق؟ شدُّ إزر كاتبٍ مبتدئ؟ هل تحتمل الثقافة مثل هذا التساهل؟ حتى كأنها حين جرت على تقاليدها العريقة في اعتصار الرحيق وجدت بين يديها نبات القرّيص، لا لمسُه آمن ولا رحيقه سلس ولا رائحته عطرة، ومع ذلك عالجته هذا العلاج، الذي من سوء الحظ، سيبقى لابثاً وعالقاً في الهواء بحكم طباعته وتبنّيه بحيث إذا جاء من يفنّده ويعارضه سيشتبك مع الكاتب الشهير وليس مع زارع القرّيص، وفي الثقافة ما فيها من التجنّي لا الجنى، ومن الانزلاقات لا الارتقاء!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار