مازلت أتذكر ذلك اليوم، حين رن جرس الهاتف وجاءني صوت رئيس قسم التحقيقات ليبشرني بموافقة المدير العام على كتابي المقدم إليه للانتساب إلى أسرة التحرير، فلم يغمض لي جفن تلك الليلة.
كان ذلك في صيف عام 1977، كنت حينها طالباً في السنة الأخيرة في جامعة دمشق، وكانت “تشرين” قد نقلت مكاتبها قبل بضعة أسابيع من حي الحلبوني، إلى مقرها الحالي الذي كان قيد الإكساء وأشبه ما يكون بورشة بناء تتوزع فيها المقاعد والطاولات المعدنية بين أكوام الرمل وأكياس الأسمنت، وكنا نعود في نهاية كل يوم عمل بالكثير من الغبار العالق على ملابسنا ورؤوسنا، كانت الحماسة في إخراج العدد كل يوم في أبهى حلّة، ديدن جميع العاملين، سواء في التحرير أم الأقسام الفنية والإدارية، وكان على متعهد الإكساء لزوم إنجاز كل الأعمال والتجهيزات إضافة إلى الأثاث وفق صيغة “مفتاح باليد” قبل دخول فصل الشتاء.
لا يمكن الحديث عن تلك الحقبة من دون التنويه إلى شخصيتين كبيرتين كانتا وراء ذلك الإنجاز العظيم.
الوزير أحمد اسكندر أحمد صاحب الفكرة الذي كان يراوده آنذاك حلم تأسيس صحيفة كبرى تنافس جريدة النهار التي كانت توزع نحو عشرة آلاف عدد في سورية يومياً، وجلال فاروق الشريف، رحمة الله عليهما، الذي نقل الفكرة الحلم إلى واقع بدأ يتجسد رويداً رويداً من بضعة مكاتب صغيرة في معهد الإعداد الإعلامي وعدد محدود من نخبة الشباب الموهوبين والمتحمسين لإحداث نقلة نوعية في مسار الصحافة السورية، أذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر، وهم الفريق الأول المؤسس: تميم دعبول، إبراهيم ياخور، عصام داري، عز الدين نابلسي، محي الدين صبحي، عادل أبو شنب، محمد الماغوط، زكريا تامر، ولاحقاً د. غسان الرفاعي، مع حفظ الألقاب والرحمة لمن غيَّبه الموت منهم.
بقي أمر ظل يشغل بال الوزير صاحب الفكرة، هو إيجاد معادل لميشيل أبو جودة كاتب افتتاحية جريدة النهار التي تستأثر باهتمام أغلبية القرّاء السوريين آنذاك، فكان إن تم استدعاء الأستاذ الكبير جبران كورية الذي كان يعمل في الإذاعة الألمانية بعد تقديم كل المغريات له، كي يعود إلى الوطن ويتبوأ منصب مدير التحرير فيها.
وهكذا اكتملت الفكرة الحلم، وانطلقت “تشرين” عام 1975، وسرعان ما بدأت تأخذ مكانها اللائق على واجهة أكشاك بيع الصحف وراحت تنافس كل المطبوعات الأخرى الوافدة من البلدان العربية، كالصحف اللبنانية والمصرية والكويتية والأردنية وغيرها، وحققت في نهاية العام الأول من صدورها رقماً قياسياً في المبيعات ظل يتطور إلى أن استقر عند الثمانين ألفاً ونيّفاً في نهاية السبعينيات.
كان على “تشرين” أن تثبِّت أقدامها وتنافس صنوها جريدة الثورة أيضاً، التي كانت متخمة بقامات صحفية وأدبية كبرى كـ أسعد عبود، نجم التحقيقات الصحفية آنذاك، وأقلام كبرى في القسم الثقافي كـ ممدوح عدوان، ونهلة كامل، وهاني الراهب، وفائز الصايغ، وخيري عبد ربه، ويوسف المحمود بعموده اليومي ” إلى من يهمه الأمر”، وليعذرني من خانتني الذاكرة بذكر اسمه.
لم تكن المهمة سهلة أبداً، كان عليها أن تثبت مكانتها أيضاً أمام منافس محلي ثالث لا يقل شكيمة عن الثورة، أي جريدة البعث التي كانت تحفل هي الأخرى بأقلام كبرى في شتى صنوف الإبداع الإعلامي أذكر منهم : إلياس مراد، ومحمود كامل، وجورج عين ملك، والشاعر سهيل إبراهيم، وجان الكسان، ونجم التحقيقات الصحفية ميشيل خياط.
وعندما أتمت “تشرين” استكمال كادرها التحريري قبيل عام 1980، كانت قد بلغت ذروة تألقها وأضحت الصحيفة الأولى بلا منازع، وكانت الوحيدة التي تنفد أعدادها بعد سويعات من توزيعها في المكتبات وأكشاك بيع الصحف والمجلات.
الآن، بعد مضي زهاء خمسة عشر عاماً على قرار دمجها في مؤسسة الوحدة وما تبعه من تراجع في مستوى أدائها، عادت للنهوض تحت مظلة مؤسسة الوحدة منذ أمس الثلاثاء بحلّة جديدة، وكأنها ولدت من جديد، بعد أن أعلنت الحداد على الحقبة الورقية، لتطرق باب “الميديا” الحديثة بقوة وبخطا حثيثة لاستعادة مجدها الضائع.
“تشرين”، لكِ المجد في السابق، وإلى العلا في الغد.
سعيد هلال الشريفي
3 المشاركات