كان الهدف من تلك الرحلة التى لا تنسى: تدشين سيارة الشفروليه الجديدة التي اقتناها والدي قبل ثلاثة شهور من أحد أفرع وكالتها في مدينة حماة المجاورة برحلة طويلة، وزيارة ما تبقى من فلسطين قبل أن “يبتلعها اليهود” بعد فترة وجيزة.
هكذا ولدت الفكرة في رأسه ذات مساء كانوني من عام 1964 وهو يحتسي الشاي مع شقيقه حول المدفأة في منزلنا، فباركها شقيقه الأصغر وشريكه في المحل، قائلاً له بحماسة شديدة: معك حق، لنذهب.
كنت أصغي لحديثهما بفضول أي طفل لا يخلو من الغيرة والحسد، وعندما خلوت إلى فراشي تلك الليلة رحت استعرض أحاديث الأستاذ نيازي عن بيته الذي غادره مكرهاً في عكا عام 1948 واحتضنته بلدتنا الصغيرة مع زوجته وأولاده واعتمدته مديرية التربية معلماً في مدرسة البلدة, قلت في نفسي قبل أن أغمض عينيّ: لابدّ أن أذهب معهما لأرى تلك البلاد الجميلة التي أحببتها من أحاديث الأستاذ نيازي في الصف.
في اليوم التالي كانت والدتي تجهز حقيبة سفر وزوادة طريق، وكم كانت دهشتي حين رأيتها تضع أمتعة تخصني وسندويشات من الجبنة التي أحبها، التفتت نحوي وهمست: ستذهب معهما, لا تقل لإخوتك الآن سأتولى ذلك بنفسي بعد انطلاقكم.
كانت الشفروليه الجديدة تلتهم الطريق كسمكة قرش جائعة غير عابئة بالمسافة الطويلة التي تفصل بلدتنا عن الحدود مع الأردن التي وصلنا إليها عند ظهر ذلك اليوم، واجتزناها من دون جوازات سفر ولا تأشيرات دخول، أو أي إجراءات أخرى بل وسط ترحيب عناصر الأمن العام بعبارة “يا هلا ومرحب بالشوام”.
كانت العاصمة عمان في ذلك الحين مدينة صغيرة تشبه مدينة درعا بحجمها ونمط عمرانها وأسواقها التجارية، التي تقفل محالها تباعاً بعد نحو ساعة من غروب الشمس، ولم يكن فيها شارع واحد يشبه بوابة الصالحية أو الشعلان في دمشق الساحرة بجمالها حيث تبقى أضواء المحال التجارية متوهجة، وازدحام المارة حتى ساعة متأخرة من الليل.
غادرنا عمان في ضحى اليوم التالي متوجهين إلى القدس، وبعد زهاء ساعة تقريباً كنا وسط مدينة أريحا, لم أعد أذكر منها إلا شيئاً واحداً لم يفارق ذاكرتي طوال تلك السنين, كنت نائماً إلى جوار والدي في سرير واسع بالفندق الوحيد والأنيق الواقع وسط المدينة حين صحوت مع شروق الشمس على رائحة تناهت إلى حواسي بقوة من النافذة المفتوحة القادمة من بيارات الحمضيات التي تحيط بالمدينة من كل جوانبها وكانت بالتحديد رائحة أزهار البرتقال التي أيقظتني في ذلك الصباح الباكر وكأني استحضرها الآن بكل قوة.
كانت القدس التي وصلنا إليها حوالي العاشرة صباحاً تبعد مسافة ساعة عن أريحا.
وما إن ترجلنا من السيارة عند مدخل السوق الكبير للقدس حتى اقترب منا المارة، رجالاً ونساء، ينظرون إلى لوحة السيارة التي تحمل شعار سورية، مرحبين بلهجتهم المقدسية المميزة “ياهلا بإخوتنا السوريين”، البعض منهم كانوا يلحّون على استضافتنا في بيوتهم على فنجان قهوة, كان السوق الكبير في القدس يشبه إلى حدّ كبير سوق مدحت باشا وامتداده إلى سوق البزورية في دمشق, وكان التجار يخرجون من محلاتهم ليسلموا علينا بعد أن انتشر خبر وصول زوار من سورية بسرعة البرق، وبينما كنا نعبر السوق اعترضنا شاب ثلاثيني أو أكثر من قساوسة كنيسة القيامة بزيه الرسمي المهيب، ألقى تحية الصباح ورحّب بنا ثم دعا والدي إلى حضور مراسم عمادة أحد أطفال المدينة، فنظر إلى عمي ثم إلى القس وقال: هيا بنا.
كان والدي رجلاً تقياً لا يدع صلاة الفجر تفوته مهما كانت الظروف. وكنت أحب تلاوته الجهورية فيها وهي تتناهى إليّ في عزّ نومي بغرفتي المجاورة له, لا أذكر أنه اصطحبني في طفولتي لمرة واحدة إلى المسجد، وها أنا الآن إلى جواره نحضر قداساً بكل خشوع وسط رجال ونساء مقدسيين، وعندما أبلغ مطران الكنيسة الحضور بوجود “ضيوف إخوة لنا من سورية” تقدم والدا الطفل المعمد منا، وطلبا من والدي أن يباركه فحمل الطفل بين ذراعيه وقبله من جبينه، وقال: نحن في سورية نتلو الأذان في أذني المولود، فردوا بصوت واحد ومعهم المطران، “أذّن له كما تشاء”.
قلت لوالدي ونحن في الطريق إلى المسجد الأقصى قبيل موعد صلاة الظهر لأدائها تحت قبة الصخرة ” بابا” شو الفرق بين الكنيسة التي غادرناها والمسجد الذي نحن ذاهبون إليه, ضغط على راحة يدي وهمس، لا يوجد أي فرق، كلاهما دار عبادة, وأردف: عندما تصبح شاباً ستفهم هذا الأمر وحدك.
في طريق العودة إلى سورية بعد أن قضينا زهاء عشرة أيام نتنقل فيها من مدينة إلى أخرى في عموم الضفة الغربية، وكان آخرها مدينتا الخليل ونابلس، قال والدي محدثاً شقيقه، وكنا على مشارف درعا، قد لا يكتب لنا أن نعيش لنزور القدس مرة أخرى، فأومأ عمي بحركة من رأسه مؤكداً أنها كانت الرحلة الأولى وربما الأخيرة إلى فلسطين التي لن يتأخر “اليهود” في ابتلاع ما تبقى منها، فأردف والدي: لهذا اصطحبت سعيداً معي لكي يروي هو بدوره ما شاهد بأم عينه لأولاده وأحفاده، بعد ثلاث سنوات فقط وقعت الكارثة التي كان يخشاها والدي، كنت حينها في بداية المرحلة الإعدادية بكيت نكسة بل كارثة السادس من حزيران عام 1967 أكثر من أقراني وزملاء المدرسة، لأنني كنت أتألم كمراهق حينها على وطن هو جزء من بلادي أعرفه جيداً، أكلت من خبزه وزيتونه وبرتقاله وجبت شوارع مدنه كلها، ولا تزال النكسة تسكن روحي كلما تذكرت أحياء القدس العريقة ورام الله وبيت لحم والخليل والناصرة ونابلس وبيارات البرتقال في أريحا.
وضاعت فلسطين.