أنشودة رومانيا

اعتدت بمجرد دخولي مبنى الصحيفة أن أمر أولاً على مكتب مدير التحرير الأستاذ المخضرم والخلوق، المحب لجميع المحررين الذين يعملون معه، المرحوم جبران كورية، لإلقاء تحية الصباح وأخذ بعض الإرشادات أحياناً، فدعاني ذات صباح من عام 1979 للجلوس، وناولني كتاباً قادماً من وزارة الإعلام لترشيح محررين من “تشرين” تلبية لدعوة وزارة الإعلام العراقية، وأخرى من وزارة الإعلام في رومانيا الصديقة آنذاك.
رفعت نظري نحوه بعد أن فرغت من قراءة الكتاب، فابتسم قائلاً: وضعت اسمك في رأس القائمة، وقد وافق المدير العام، وسوف يرسل الرد إلى الوزارة بعد سويعات لاستصدار جوازات سفر مهمة رسمية، لتسافروا بعد غد، قلت: إلى أين بالضبط؟، فقال: أعتقد أنك الأنسب للذهاب إلى رومانيا.
حطت الطائرة السورية في مطار بوخارست عصر ذلك اليوم، وكنت برفقة أستاذين كبيرين من جريدة البعث، المرحومين محمود كامل والشاعر سهيل إبراهيم.
كان في انتظارنا مندوب عن وزارة الإعلام الرومانية يتقن العربية والفرنسية بشكل مذهل، وبرفقته في الخارج سيارة وسائق وضعتهم الوزارة المعنية بتصرفنا طوال إقامتنا مدة أسبوع.
كان المطر ينهمر بغزارة ودرجة الحرارة تقارب خمس درجات، على حين كان الطقس لطيفاً حين غادرنا دمشق، فاقترح علينا المرافق الذي أعاد على مسامعنا اسمه عدة مرات، لكننا لم نستطع أن نلفظه بشكل صحيح، فاستدار الأستاذ محمود كامل نحوه وقال له مداعباً: ما رأيك أن نناديك أبو علي، فضحكنا جميعاً وقال: لا بأس وسوف أنادي زوجتي اعتباراً من اليوم، أم علي، وأضاف: سوف أترككم ساعة في الفندق لترتاحوا قليلاً وترتدوا ثياباً ثقيلة تقيكم برد بوخارست الذي سوف يشتد أكثر مع حلول الظلام، لأعود ونتناول طعام الغداء في مطعم روماني عريق ليس بعيداً عن الفندق.
كان أبو علي من جيل الزميلين محمود وسهيل، في الأربعين تقريباً، وكنت الأصغر بينهم آنذاك، في أواخر العشرينيات من العمر، لذا كان من الطبيعي أن يوجه جل حديثه لهما، وتحديداً للزميل محمود كامل، لكونه الأكثر وقاراً ووسامة ومرحاً في آن واحد.
ما إن فرغنا من طعام الغداء، وكان النهار يوشك على الرحيل، حتى انضم إلينا المرحوم الزميل جورج عين ملك الموجود منذ شهور في بوخارست مُرحباً بنا ليدعونا إلى قضاء سهرة ممتعة في النادي الليلي في فندق انتركونتينانتال الفخم، وراح يتحدث مع” أبو علي” بلغة رومانية طليقة، فانتهز الأخير الفرصة معلناً أن اليوم هو يوم راحة بالنسبة لنا، وأن البرنامج المعد من الوزارة يبدأ من صباح اليوم التالي، طالباً الإذن بالانصراف لعدم الحاجة إليه بوجود جورج، فانتهزت الفرصة على الفور وهمست في أذن “أبو علي” طالباً منه أن يبقى لنذهب معاً في جولة بالمدينة، لأن فكرة السهر في نادٍ تصدح فيه الموسيقا بصوت صاخب لم ترق لي، فأومأ بحركة من رأسه موافقاً وأردف: بشرط أن أعيدك إلى الفندق قبل العاشرة ليلاً، فسألته باستغراب، لماذا تحديداً قبل العاشرة، فقال: لأنها بدء ساعات التقنين الكهربائي وانقطاعها شبه التام في جميع أنحاء المدينة حتى السادسة صباحاً، قلت مستغرباً: أهذا معقول في بلد يقع في قلب أوروبا، فقال: دعك من هذا الموضوع الآن، سوف نتحدث في هذا الشأن عندما ننتهي من جولتنا ونجلس في مقهى هادئ.
كانت المدينة تضج بالحيوية ذاك المساء، كنت أنظر من النافذة بشغف لحركة المارة في كل الشوارع التي كانت تعبرها السيارة، نساء معظمهن بدينات، يتجهن بتثاقل نحو مواقف باصات النقل الداخلي، ورجال بل شبان يبدو التعب على وجوههم من ساعات العمل المضنية، التفت أبو علي نحوي معلقاً: هذا وقت انصراف العمال والموظفين العائدين إلى منازلهم سوف تقفر الشوارع بعد بضع ساعات من المارة، وتغرق العاصمة في ظلام حالك حتى الصباح.
على طاولة في مقهى يقع في أحد شوارع بوخارست العريقة، بادرني أبو علي مستفسراً عن سبب دهشتي من غرق العاصمة بالظلام وتوقف بث محطة التلفزيون الرسمي الوحيدة تزامناً مع بدء التقنين الكهربائي، وشرع يمطرني بسؤال تلو الآخر عن سورية، وكيف هي الحياة بشكل عام هناك؟، وهل الناس البسطاء سعداء في حياتهم ويتمتعون بدرجة معقولة من رغد العيش كالكهرباء والهاتف، والسيارة، ووفرة الأغذية والحصول عليها من دون انتظار في «طوابير» تمتد مئات الأمتار أمام بوابات المؤسسات، والسفر خارج البلاد بجواز سفر عادي، والرواتب، وهل عندنا محال تجارية تبيع الألبسة الفخمة، والسجائر الأجنبية الفاخرة؟ ثم أردف، هل ثمة حرج في أن أسألك كم يبلغ راتبك من الجريدة التي أوفدتك قبل أن تجيبني عن كل أسئلتي السابقة؟
أجبته باختصار وقتها أن راتبي الشهري إضافة إلى تعويضات بسيطة أخرى، يعادل أربعين غراماً من الذهب، فأشاح بوجهه يمنة ويسرة، وقال بصوت متحشرج: هل أنت جاد فيما تقول؟

قلت: بلى، وهذا حال أغلبية العاملين في مؤسسات وشركات الدولة السورية من حملة الإجازة الجامعية، توقف أبو علي عن الكلام هنيهة، نظرت إليه وإذ بدمعتين تنبثقان من عينيه وتنسابان على وجنتيه، سحب سيجارة من علبة “المارلبورو” التي كنت قد وضعتها بيننا، فأشعلها، وأخذ نفساً عميقاً منها، وانحنى نحوي وقال بهمس: أنت شاب في مقتبل العمر، تعيش في بلد يقدم لك كل مقومات الحياة، وراتباً شهرياً يعادل ما أتقاضاه خلال تسع سنوات مع انعدام الحد الأدنى من الخدمات ومتطلبات العيش، وا أسفاه!
غداً سنذهب معاً في بداية برنامج زياراتكم لحضور حفل كبير بحضور الرئيس تشاوسيكو وأعضاء القيادة والوزراء، يتخلله عرض مسرحي عن بطولات الشعب الروماني وتضحياته، وسوف تصغي ببداية افتتاح الحفل إلى “أنشودة رومانيا” التي يبدأ مطلعها ” استيقظوا أيها الرومانيون من سباتكم المميت الذي أغرقكم فيه الطغاة الهمج”. وستفهم جيداً من دون أن أترجم لك كل ما سيقال، لماذا نحن على هذه الحال، ولماذا لا نعيش حياة رغيدة مثلكم.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار