كان مكتب الوكالة العربية السورية للأنباء يطل على جادة الشانزليزيه في باريس، ومن نافذته الواسعة، كان المرحوم الدكتور غسان الرفاعي جالساً وراء مكتبه، سارح الذهن، يتأمل حركة الشارع حين ولجت الباب ذات صباح من شهر نيسان عام 1985، قاطعاً عليه شروده وسلسلة أفكاره، التفت نحوي وأمعن النظر بي مع ابتسامته الودودة التي يعرفها جميع الذين اشتغلوا في السابق معه، وسألني:
ألست من صحفيي “تشرين”؟
قلت بلى، أنا فلان.
نهض من وراء مكتبه على الفور، قائلاً: تذكرتك، واتجه نحوي ماداً كلتا يديه للمصافحة والترحيب، وقبل أن يدعوني إلى الجلوس، نادى السكرتيرة التي مررت من أمامها قبل دقيقة، فدخلت علينا بقوام ممشوق ووجه جميل، فقال لها مداعباً: هذا زميل جاء من سورية ليتذوق قهوتك الطيبة، فابتسمت مُرحّبة، واستدارت نحو مكتبها حيث يوجد بجانبه مطبخ صغير يتسع لشخص واحد، وعادت بفنجاني قهوة اسبريسو، أتاني عطر رائحتها الأخاذ قبل أن تصل.
وضعتْ “سيلفي” صينيةَ القهوة بيننا ومضتْ إلى مكتبها، ومع أول رشفة من فنجان القهوة شرع يسألني متى وصلت، وهل أوفدتني الجريدة أم مجرد زيارة شخصية، ثم أخذ يسألني عن أحوال بعض الزملاء الذين تركهم في الجريدة التي شغل منصب رئيس التحرير فيها بعد تنحي المؤسس جلال فاروق الشريف- رحمه الله. سألني تقريباً عن معظم كادر التحرير فرداً فرداً، وعرّج على بعض العاملين في الشؤون الإدارية والفنية، لكنه تغافل عن تذكر واحد منهم، فسألته في نهاية جولة الاطمئنان إن لم يكن قد نسي شخصاً ما، فأردف ممازحاً: قصدك المدير العام؟
قلت، تماماً، فضحك وقال: بماذا يمكن أن أخدمك هنا في باريس؟ إن كنتَ تنوي إجراء تحقيقات صحفية أو مقابلات، فاعتبر المكتب مكتبك، هناك طاولة فارغة، يمكنك أن تشغلها طوال إقامتك، كما يمكنك الاعتماد على السكرتيرة لتزويدك بكل المعلومات التي قد تحتاجها، أو ترتيب مواعيد لك مع شخصيات ترغب بمقابلتها.
تعرفتُ إلى الدكتور غسان الرفاعي، حين كان رئيساً لدائرة الدراسات في صحيفة تشرين عن طريق صديق حميم مشترك، هو الناقد السينمائي الفلسطيني المرحوم حسان أبو غنيمة.
كان ذلك عام 1976، كنت حينها طالباً في الجامعة، وكان الدكتور غسان يزودني بمقالات يختارها بنفسه من الصحف الفرنسية، لكي استخرج منها دراسة متكاملة، في كل مرة كان يصطحبني فيها صديقنا أبو غنيمة إلى الصحيفة، حين كانت مكاتبها في حي الحلبوني آنذاك ، كان الاستكتاب الذي توفره لي تلك الدراسات يغطي كل نفقات إقامتي ودراستي في دمشق خلال العام.
وضعت فنجان قهوتي على الطاولة وقلت للدكتور غسان: لقد غمرتني بلطفك ومحبتك كما في السابق، فلنبدأ إذاً من الآن، إني أتوق لمقابلة المفكر “ريجيس دوبريه” لقد قرأت له مقالات مترجمة وكتابات عنه في العديد من الصحف والمجلات العربية منذ أن أصبت بعدوى القراءة بشراهة في سن يافعة، وما زلت حتى الآن معجباً بهذا الرجل المناضل من أجل حرية الشعوب المضطهدة، صديق تشي غيفارا وفرانس فانون. في الواقع، لا أعرف أين أجده، فهل أطمع بمساعدتك؟
نادى الدكتور غسان سكرتيرته الحسناء وسألها: هل لا يزال ريجيس دوبريه مستشاراً للرئيس ميتيران؟ فأجابت، بلى منذ يومين كان ضيفاً على نشرة أخبار المساء في القناة الأولى بصفته مستشاراً للرئيس.
التفت الدكتور غسان نحوي قائلاً: هل بوسعك أن تدوّن الآن المحاور الرئيسة لأسئلتك التي ستطرحها عليه، لكي تطبعها “سيلفي” وترسلها بالفاكس مع طلب المقابلة الى القصر الجمهوري؟
بدأت “سيلفي” بالاتصال مع قصر الإليزيه فوراً لأخذ موعد، فطلب مدير مكتب دوبريه موجزاً عن سيرتي الذاتية والهدف من المقابلة.
كنت أقف إلى جانبها ألقّنها المعلومات المطلوبة، بينما كانت أناملها الناعمة تعزف بمهارة على لوحة المفاتيح، ومع كل حركة من كتفيها كان يتناهى إلى حواسي رائحة عطر أخّاذ لم تتعرف إليه جوارحي من قبل، عطر يجعلك تهيم في ملكوت عوالم لامتناهية، فسألتها بهمس، بعد أن نفد صبري: ما اسم عطرك؟ التفتت نحوي مبتسمة ورفعت شعرها المنسدل على وجهها، وهمست: أوبيوم.
بعد زهاء ساعة من إرسال الفاكس المتضمن مختصراً عن سيرتي الذاتية، وصورة عن بطاقتي الصحفية، ونحواً من عشرة أسئلة، جاء الجواب عبر الهاتف بأن السيد دوبريه يسره أن يستقبلني في مكتبه صباح اليوم التالي عند الساعة العاشرة صباحاً.
ودّعت الدكتور غسان، بعد أن أكد ضرورة أن أمرَّ لعنده فور انتهاء المقابلة في اليوم التالي، لكي نتناول طعام الغداء في مطعم لبناني مجاور، ونتحدث بما جرى خلال المقابلة.
وللحديث صلة….