أحفاد الناصر صلاح الدين (2-2)

على طاولة في مطعم بالقرب من شلال ماء ينثر قليلاً من الرذاذ المنعش مساء ذلك اليوم الحار من شهر تموز، شرع ضيفي يحدثني عن محتويات المخطوط الذي دون فيه جده الأعلى وقائع معركة حطين عام 1187، وما حصل في لقائه مع السلطان صلاح الدين الأيوبي، فقال:
حين انتهت المعركة بهزيمة جيوش الفرنجة، وقع عدد كبير من الأمراء والفرسان الغربيين أسرى، فأودعهم السلطان صلاح الدين السجنَ، وكان من بينهم جدنا الذي كان فارساً في حامية أحد الأمراء.
بعد بضعة أسابيع على مكوث الأسرى في أحد السجون جنوب سورية، وصل فرمانٌ مذيّلٌ بتوقيع السلطان يقضي بإطلاق سراح كل فارس مقابل 500 ليرة ذهبية، فطلب جدنا من مدير السجن إبلاغ السلطان رغبته بمقابلته لسبب خاص، فكان له ذلك.
مَثَلَ الفارسُ بعد بضعة أيام من الطلب في حضرة السلطان، جاثياً وفقاً للتقاليد العسكرية في ذلك الحين، فسأله السلطان ما خطبك؟، فأجاب: أنا يا حضرة السلطان المعظم فارسٌ من أسرة عريقة في فرنسا، عندنا أطيان وأراضٍ زراعية شاسعة، لكنني لا أملك هنا ليرة من فِدية حريتي، ألتمس من حضرتكم إطلاق سراحي مؤقتاً وإعطائي مهلة ستة شهور لأعود بالمبلغ المطلوب مقابل حريّتي.
فكر السلطان للحظات بالأمر ثم سأله: ما الذي يضمن لنا أنك ستعود إلينا بعد انتهاء المهلة المطلوبة؟ أجابه جدُّنا: وعدٌ بشرفي العسكري كفارس.
عاد جدنا إلى فرنسا على متن أول باخرة انطلقت من أحد موانئ فلسطين، ليفاجأ بأن أحوال عائلته ليست على ما يرام، فقد مزقت الحروب الداخلية البلاد، وتشتت القوم وعمّ الفقر كل مكان، فراح يجوب المقاطعات المجاورة بحثاً عمن تبقى حياً من أسرته وأقاربه، ومن عثر عليهم كانوا في أسوأ الظروف، فلم يستطع أن يجمع المبلغ المطلوب، فقرر قبل انتهاء المهلة، العودة إلى سورية والمثول مجدداً أمام السلطان.
لم يستقبل السلطان جدنا هذه المرة كأسير حرب، بل كفارس أقسم بشرفه العسكري على أن يعود فوفى بوعده وعاد في نهاية المهلة المحددة، فسمح له السلطان بالجلوس وأحسن مثواه واستمع إلى قصته كيف أنه عاد خاوي الوفاض، فعرض عليه السلطان أن يطلق سراحه مقابل دخوله الإسلام واستبدال لقبه العائلي بصلاح الدين.
رحب جدنا بعرض السلطان الذي أرسل كتاباً بقراره إلى الأبرشية التي يتبع لها جدنا، فعاد جوابها بعد بضعة شهور إلى ديوان السلطان بتسجيل الواقعة.
توالت السنوات والقرون وعائلتنا تكبر حاملة هذا الاسم، لكن مع ظهور محاكم التفتيش عاد المئات الى المسيحية خوفاً من البطش.
تحدث جدنا في مخطوطته كثيراً عن مناقب هذا الرجل الفذ، عن كرمه وتسامحه، وأوصى أولاده وأحفاده أن يفخروا بانتمائهم إليه وألّا يتخلّوا أبداً عن اسمه.
ما إنْ وطئت أقدامنا أرضَ دمشق، يضيف محدثي، حتى توجهنا على الفور إلى ضريح السلطان صلاح الدين، مكثنا إلى جانبه زهاء ساعة. لا أعرف ما هي طبيعة المشاعر التي تولدت عندي حينها، لكنني أؤكد لك أنها كانت غريبة، لم أشعر بمثلها من قبل تجاه أي شخص آخر.
قبل أن نغادر المطعم ليتابعوا طريقهما إلى دمشق، أخرج “فرانسوا” ورقة وقلماً ودوّن عنوانه ورقم هاتفه في فرنسا، ثم ناولني إياها قائلاً: اتصل بي متى عدت لفرنسا لتتناولَ العشاءَ عندنا، وتطّلعَ على المخطوطة بنفسك.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار