كنت في منزل العائلة أقضي إجازة الصيف ذات يوم حار جداً من شهر تموز عام 1996، حين قرع مجهولٌ جرس المنزل لينبئني شقيقي الأصغر بعد هنيهة أن ميكانيكياً يرغب بالتحدث إلي.
على الطريق المؤدية إلى ورشته الخاصة، غمرني الشاب الذي لم أكن أعرفه من قبل بلطف اعتذاره وتودده، مؤكداً أنه استنجد بالعديد من الأشخاص لكنهم لم يفلحوا بفهم المشكلة التي حصلت لسيارة سائحين أوروبيين، يعتقد أنهما ألمانيان، توقفا عنده لإصلاح عطل مفاجئ حصل معهما أثناء زيارتهما لموقع مدينة إيبلا التاريخي في تل مرديخ، راجياً أن أفهم حقيقة ما حصل معهما لكي يتمكن من القيام بعمله على أكمل وجه.
ترجلت من سيارته وعلى الفور استنتجت من ملامحهما أنهما فرنسيان, شاب ثلاثيني، تجلس إلى جواره شابة جميلة في الخامسة والعشرين من عمرها تقريباً، بادرتهما بالتحية فانفرجت أساريرهما، وراح الشاب يشرح لي ما حصل لسيارتهما«رينو كليو أتوماتيك» المستأجرة من شركة في دمشق.
تركنا الميكانيكي، بعد أن أخذ علماً بمكمن الأعطال، ليقوم بعمله الذي سوف يستغرق نحو ثلاث ساعات، ومضينا إلى منزل الأهل لتناول طعام الغداء.
على المائدة التي حضرتها والدتي بأشهى المأكولات بسرعة متناهية، حدثني الشاب عن سبب زيارتهما سورية، وهي المرة الأولى مع صديقته، وأنه ظل يحلم بهذا اليوم منذ نحو خمسة عشر عاماً إلى أن سنحت له الظروف وتوفر معه المال الكافي لتمويل هذه الرحلة« الخارقة».
قلت له كيف ولماذا… هل لك أن توضح أكثر؟
نهض على الفور من كرسيه وتوجه نحو محفظته المرمية على مقعد مجاور, وأخرج جواز سفره وقال: اقرأ اسمي وستعرف نصف الجواب بمفردك.
على صحيفة جوازه كان مدوناً الاسم التالي: فرانسوا، الكنية: صلاح الدين، اسم الأب: برتران، الأم: اليزابيت.
قلت له: أنت إذاً من أصل عربي! أهلاً ومرحباً بك. ابتسم، وأردف: للأسف لا، نحن فرنسيون أباً عن جد.
قلت مستغرباً: من أين أتتك كنية صلاح الدين إذاً, وهل لهذا الاسم صلة مع السلطان صلاح الدين مثلاً؟.
قال، هو كذلك تماماً.
قلت، كيف؟
كنا على وشك الانتهاء من الطعام، حين دخل شقيقي حاملاً صينية الشاي، فقال فرانسوا: لهذا قصة طويلة جداً سأرويها لك بعد قليل مع كأس الشاي.
الشاي عندكم أطيب وألذ من الشاي عندنا في فرنسا, لا أعرف أين يكمن السبب, هل هو في نوعية الشاي الفاخر الذي تستوردونه، أم في طريقة التحضير المختلفة؟.
ثم استأنف قائلاً: لقد جئنا إلى سورية لنعيش افتراضياً بضع ساعات من وقائع المعركة الفاصلة بين جيوش الفرنجة وجيش المسلمين بقيادة السلطان صلاح الدين، والتي كان جدنا الأكبر لأبي أحد فرسان الملك بودوان الذي وقع في الأسر مع عدد من فرسانه، ومن بينهم جدنا الأكبر كزافييه ديمون.
قلت مندهشاً: هل ستروي لي سيناريو فيلم أنت بصدد إعداده لكونك مخرجاً سينمائياً أم إنك تحدثني عن جوانب قد لا نعرفها مما حصل في معركة حطين التي انهزمت فيها جيوش الغرب، وأسدل الستار على إثرها على حقبة مظلمة من التواجد الغربي في الشرق، تحت مسمى «الحروب الصليبية»؟.
قال: قد أصنع فيلماً يوماً ما حول هذا الموضوع, لكن ما سأرويه لك مدون في مخطوط تركه جدنا كزافييه، ولا تزال العائلة تتوارثه وتحافظ عليه ككنز عن حقيقة ما جرى، وكيف تغير اسم عائلتنا من« ديمون» إلى صلاح الدين.
«للحديث صلة الأسبوع القادم».