بعد ثلاثة أيام فقط من استلامي قرار تعييني ضمن الهيئة التدريسية في قسم اللغات الشرقية والسلافية وآدابها في جامعة “بروفانس” في فرنسا، دخلت مكتبة القسم العامرة رفوفها بنحو مئة ألف كتاب ووثيقة من مختلف اللغات والثقافات التي يعنى بتدريسها هذا القسم الضخم، الذي يضم في هيئة تدريسه أكثر من ثلاثين أستاذاً متخصصاً في علوم ولسانيات تلك اللغات الشرقية وثقافاتها، وطلبت من مسؤولة المكتبة أن تطلعني على الجناح المختص بالكتب العربية، وكانت المفاجأة التي جعلتني أخرج بعد دقائق محبطاً، لأتوجّه على الفور إلى مكتب رئيس القسم أشكو له فقر رفوف المكتبة بالكتب العربية مقارنةً مع اللغات الأخرى كالصربية، والفارسية، والتركية وغيرها.
كان ذلك عام 1986، وكان رئيس القسم يرمقني من وراء طاولته بابتسامة ودودة وأنا مسترسل في التعبير عن سخطي وامتعاضي من حال المكتبة، إلى أن فرغت من مرافعتي، فسألني بصوت خفيض ونبرة لطيفة، إن كان لدي اقتراح عملي ليرفعه على الفور إلى عميد الكلية لإقراره!.
قلت: بلى، نستقدم كميات كبيرة تشمل أعمال نخبة من الأدباء السوريين المعاصرين في شتى صنوف الإبداع الأدبي من شعر ومسرح وقصة ورواية ندخلها المكتبة لتصبح في متناول طلابنا والباحثين.
هنا بدأت ملامح وجهه تتغير وبدت على محياه أسارير بهجة عارمة، نهض من وراء مكتبه، وجلس على المقعد المجاور لي، وقال: وما هي الوسيلة للتواصل مع هؤلاء الكتاب، وما مدى استجابتهم لطلبك حسب توقعك؟.
قلت: سيتوقف ذلك على قوة صيغة الكتاب الذي سنوجهه لهم، والذي يفترض أن يكون ممهوراً بتوقيعك وختم الجامعة، وسترى كيف ستتوالى إرساليات الكتب عبر البريد على مدى الشهور القادمة.
– ومتى يكون كتابك جاهزاً لأدرسه وأوقعه؟
– غداً بنسختين، الأصل بالفرنسية، ونسخة مترجمة إلى العربية لتوجيهها عبر سكرتاريا القسم إلى السادة الأدباء مع عنوان كل فرد منهم في الجمهورية العربية السورية.
ضحك قائلاً: “إن شاء الله”، أليس هكذا تقولون عندكم؟!
قلت: بلى، وهي تعني أيضاً إنّ ذلك من عزم الأمور. فقال: ستشرحها لي غداً.
قلت بكل سرور.
وكان أول المستجيبين لطلبنا المرحوم الشاعر العظيم سليمان العيسى، يليه الأديب الكبير عبد السلام العجيلي، الذي وجهنا له دعوة في منتصف العام الدراسي لإلقاء عدة محاضرات عن تجربته الغنية كطبيب في الريف وسياسي مخضرم وأديب كبير سبق أن ترجمت له اليونيسكو روايته الشهيرة “قلوب على الأسلاك” إلى الفرنسية قبل بضعة أعوام من ذلك التاريخ، وكنت قد رشحت ترجمة روايته الأشهر “باسمة بين الدموع” من قبل طلاب القسم وإشراف نخبة من المدرسين المتخصصين بالآداب العربية المعاصرة، وفي مقدمتهم البرفسورة “هايدي توليه” النمساوية الأصل الحائزة على الدكتوراه من الجامعة نفسها بفن القصة السورية وتوجهاتها.
لم يمضِ العام الأول إلا وكان جناح الأدب السوري في مكتبة القسم الأكثر ثراءً من بين البلدان العربية الأخرى بما فيها الأدب المصري والمغرب العربي.
ترجم الطلاب في العام الأول مختارات من أعمال الأديب الكبير وليد إخلاصي، وفي العام الذي تلاه تشكلت ورشة عمل لترجمة مقاطع متنوعة من أعمال كل من الأديبات: قمر كيلاني، وغادة السمان، وألفة إدلبي… والقائمة تطول.
وكم أتمنى على الهيئة العامة السورية للكتاب أن تضطلع بهذه المهمة الحضارية لتقدم إلى الناطقين بالفرنسية عبر العالم صورة مشرقة عن أنطولوجيا الأدب السوري عِبر سلسلة كتب إلكترونية لكبار أدباء سورية.!.
وضاح عيسى
4359 المشاركات