ست الحبايب

انتهت الجلبة التي أحدثها هبوط الطائرة في مطار مالطا بعد عشر دقائق من وصولها لتعود الحياة بكل تثاقلها إلى صالة الركاب.

كان عليّ أن أنتظر في المكان وقتاً من ست ساعات لأستقل الطائرة المتجهة إلى باريس.
فضلت بداية القيام بجولة على كافة أقسام الصالة قبل أن ينتهي بي المقام على طاولة في الكافتيريا التي تفوح من أرجائها رائحة قهوة الاسبربسو الإيطالية. اشتريت مجلة باري ماتش، وطلبت فنجان قهوة ورحت أقلب صفحات المجلة الزاخرة بالعديد من الريبورتاجات الشاملة التي كانت تصدر مثيلاتها في كل عدد من مجلة “العربي” الكويتية في ستينيات القرن الماضي.
كنت مسترسلاً  بمشاهدة صور أخاذة في روعتها عن أجمل سلاسل الجبال في العالم، وأنماط عيش سكان كل واحدة منها، عندما انتصب خيال أمام طاولتي، رفعت ناظري إلى أعلى وإذ بامرأة أربعينية، ممشوقة القامة، أنيقة، بادرتني بلغة فرنسية متقنة، وابتسامة تملأ ثغرها: أيزعجك أن أشاركك طاولتك كونها الوحيدة المتاحة لشخص آخر؟
توقعت منها بعد أن استوت على مقعدها أن تحتسي قهوتها وتقلب صفحات مجلتها دون أن تكترث بي، لكنها فاجأتني بالقول: أنا جيهان، وأنت؟ من أي بلد عربي حضرتك، سألتها؟
ضحكت وقالت، والدي مصري وأمي إيطالية. أشرف على إدارة أهم صالة عرض للوحات الفنية العالمية في مدينة ميلانو.
هل زرت مالطا من قبل؟ ما رأيك أن نأخذ إذن خروج من الأمن العام لتناول طعام الإفطار في المدينة؟
على طاولة في مطعم جميل بوسط المدينة راحت تحدثني عن سبب ترحالها بين العديد من بلدان العالم بحثاً عن لوحة مفقودة للفنان الانطباعي “كلود مونيه”، وكان آخر المعلومات التي حصلت عليها  أكدت أن اللوحة موجودة في باريس.
في الطريق بين مالطا وباريس، كانت جيهان تحدثني بشغف عن طفولتها في ميلانو وبعض العطلات الصيفية مع والديها في مصر، وأنها اقتفت آثار والديها بدراسة الفنون الجميلة حباً بجميع مدارس الفن التشكيلي الأوروبي، لاسيما المرحلة الانطباعية، ولاحقاً السوريالية.
وكما هو الحال دائماً، تنتهي اللقاءات مهما كانت حميمية، بعبارات الوداع والمتعة المتبادلة في تبادل أطراف الحديث طوال ساعات الرحلة والأمل بلقاء آخر، ربما.
هذه الربما، كم مرة تحدث في عمر الإنسان؟
لم أكن أتوقع، ولا جيهان أيضأ، أن نلتقي بعد سنتين، عام 1997 في كافتيريا مطار باريس. تصافحنا من جديد، وانفجرت منا ضحكة مجلجلة في الوقت ذاته.
إلى أين أنت ذاهبة؟ سألتها.
إلى ميلانو. تعال معي لحضور حفل افتتاح ضخم جداً لم يسبق له مثيل في صالة العرض. دعوت إليه شخصيات مهمة من عالم الفن والسياسة والإعلام والأعمال. سأقدمك للكثير منهم.
نسيت أن أسألك: إلى أين أنت ذاهب؟
-إلى سورية.
-لماذا؟
-اشتقت لفنجان قهوة صباحية مع ست الحبايب، أمي.
-هل تعدني بزيارة عندي في ميلانو بطريق عودتك إلى فرنسا ثانية. عندي الكثير مما اريد أن  أحدثك عنه؟
ربما.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار