ما إن خرجنا من مدينة «اكس انبروفانس» باتجاه مدينة “نيس” بجنوب فرنسا حتى انفجرت العجلة الخلفية للسيارة.
أخذ صديقي البروفيسور بارفيز أبو القاسمي، أستاذ اللغة الفارسية في الجامعة، يمين الطريق وتمكّن من إيقاف السيارة بمهارة فائقة.
كان ذلك صباح يوم دافئ من شهر أيار عام 1988. كنا ذاهبين لحضور حلقات بحث عن الترجمة الفورية بدعوة من جامعة نيس.
نزلنا مذهولين، ليس مما حدث معنا، بل من حقيقة كيف سنبدل العجلة بسرعة من دون أن تتسخ ثيابنا الأنيقة وأيادينا.
أشعل “بارفيز” سيجارة وبدأ يتلفت بكل الاتجاهات، ثم مضى بضع خطوات إلى الأمام وصرخ لي: تعال انظر، تقدمت نحوه، وإذ بطريق ترابية تؤدي بعد بضعة أمتار إلى مزرعة يتوسطها بيت ريفي مهجور نصفه متداعٍ، وإلى جانبه بئر ودلو وحبل معلق على بكرة, ألقى بارفيز حجراً في البئر فتبين أنه مملوء بالماء، وقبل أن نعود إلى السيارة فرحين بالعثور على ماء لتنظيف أيدينا بعد تبديل العجلة وقف بارفيز أمام واجهة المنزل المتداعي يدوِّن على دفتر رقم الهاتف وفحوى الإعلان عن رغبة المالك ببيع المزرعة والتي هي أرض مساحتها نحو ثلاثة دونمات مزروعة بالكرمة وبضع أشجار فاكهة متنوعة.
فرك بارفيز راحتيه فرحاً، وراح يدمدم: وجدتها يا صديقي، هنا ستكون “بادستان”، قريتي الجميلة التي رأيت عليها النور قبل ستين عاماً، والتي لم أعد إليها منذ غادرت الوطن هرباً من بطش “السافاك” في ستينيات القرن الماضي.
ظل بارفيز يحدثني طوال طريق العودة مساءً ذلك اليوم عن طفولته في قريته بادستان، وعن حبه الذي لم ينطفئ بعد كل تلك السنين لجلنار، ذات الشعر الكستنائي والعينين الفيروزيتين اللتين يغوص الأطلسي في لجتيهما, مدّ يده إلى المقعد الخلفي وأخرج منها ثلاث أوراق، وناولني إياها, اقرأ بصوت عالٍ من فضلك! قال: أعرف أن بارفيز يقرض الشعر بلغته الأم، وأنه من عشاق شعر عمر الخيام، وحافظ، وغالباً ما كان يترجم لنا بعضاً من قصائده في سهراتنا، لكنه فاجأني هذه المرة بقصيدة له باللغة الفرنسية ترقى إلى مستوى لويس أراغون في رومانسيته، وشارل بودلير في قوة لغته ورصانة معانيه.
كنت أقرأ أبياته وأنساب معها، وكان يدمدم معي بصوت خفيض ويهز برأسه، وبين الفينة والأخرى، كان يمسح دمعات تسيل على وجنتيه حين وصلت إلى منتصف القصيدة، إلى عمق بوحه ومناجاته وتمسكه بمجاديف القارب وهو يواجه العاصفة في بحر عينيها الفيروزيتين.
وضعت الأوراق جانباً بعد أن فرغت من قراءتها، وساد صمت لثوان عديدة كنت استعيد خلالها دفقاً من فيض كلماته، حتى قاطعني بصوت متحشرج: وأنت ألم تحمل بين أوراقك من دمشق قلباً ينبض بين كل حرف من حروفها، يشدك الحنين إلى أريجها كلما أوغلتَ في سنيّ غربتك؟.