ليلة رأس السنة

كان الثلج يتساقط بغزارة في مثل هذا اليوم من عام 1986..كنت حينها أرتشف فنجان قهوة الصباح قرب النافذة المطلة على الشارع، أراقب حركة بعض المارة حين رن جرس الهاتف ليقطع سلسلة تلك المشاهد الرتيبة، نهضت على الفور من مقعدي.
مَنْ عساه يكون في هذا الصباح!.
رفعت السماعة، وإذ بصوت أندريه، زميلٌ في الجامعة، يناشدني أن أعذر اتصاله في هذا الوقت المبكر ويعلمني أنه تلقى دعوة لحضور حفلة موسيقية في دار الثقافة بمدينة مرسيليا مساء اليوم ذاته، ويرغب في أن أرافقه ليؤكد الحجز، وأنها فرصة لا تفوت للاستماع إلى فنان إسباني أندلسي، يعزف على أوتار الغيتار ألحان السماء، القادمة من سحر الشرق الذي تركه الأمويون في مسقط رأسه الأندلس، وعزز حجته بالقول: ستكتشف المواويل التي أطربتني بسماعها في بيتك، بلغته الأندلسية ومزجها مع المقامات العربية، إنه مذهل ليس فقط كفنان مبدع، بل كإنسان أيضاً.
كان “بيدور” يسكن مع زوجته، الأندلسية أيضاً، في بيت ريفي محوط بحديقة شاسعة عند مدخل قرية تبعد عن المدينة نحو عشرة كيلومترات تدعى “فوفنارغ”، ما إن ترجلت من السيارة، تلبية لدعوته إلى حفلة ليلة رأس السنة، حتى لفت انتباهي على الضفة الأخرى من الطريق قصر منيف، بوابته الرئيسة مغلقة بسلسلة غليظة، ولا تبدو أي معالم حياة في أرجائه.
سالت أندريه على الفور لمن هذا القصر المهجور؟ ابتسم ، ثم أردف: ستتعرف بعد دقائق قليلة على حفيدة صاحب هذا القصر المهجور، هيا بنا الآن.
وما إنْ تقدمنا بضع خطوات نحو المنزل، حتى خرجت من الباب الواسع شابة جميلة، في الثلاثين من عمرها، أو أقل، ترتدي بنطال جينز وكنزة حمراء بياقة تلف الرقبة، ينسدل فوقها شعر كستنائي، رحبت أولاً بأندريه وزوجته، ثم مدت يدها نحوي مصافحة، وابتسامة زادت مسحة جمال إضافية على محياها قائلة بلكنة “اسبنيوليّة”: أنا روزلين، وأنت كما قيل لي، سعيد القادم من عاصمة الأمويين.
قبل أن يأخذ كل منا مكاناً بالقرب من« الشومينه» العامرة بجذوع الصنوبر المتوهجة، همست روزلين في أذني قائلة: سوف تصل بعد قليل أعز صديقاتي، وهي شغوفٌ بالتعرف إليك لأنها تُحضّر رسالة دكتوراه عن الأدب السوري الحديث، ولا أظنك ستبخل عليها بالكثير مما تعرف في هذا المجال.
كان أندريه يرنو إلينا عن بعد، وبمجرد انسحابها متجهة نحو المطبخ، هرع نحوي يسأل بلهفة: هل أخبرتك من تكون؟ قلت لا، فأردف: إنها حفيدة الفنان التشكيلي الكبير “بابلو بيكاسو” بالتّبني والقصر المهجور هو قصره الذي عاش فيه كل سنواته الأخيرة، ولاسيما المرحلة الزرقاء، وأوصى أن يوارى الثرى وسط حديقته الغنّاء، لا بأس أن تطلب منها حين ترى الفرصة مواتية خلال السهرة، أن تحدثك عن ذلك، وأعتقد أنك ستحصل على مادة صحفية في غاية التشويق، فهي تحتفظ بالكثير من الأسرار عن هذا الفنان الذي ملأ الدنيا وشغل الناس خلال ردح من الزمن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار