مجازر لا تموت بالتقادم
عشية إحياء الذكرى 61 للمجزرة المروعة التي ارتكبتها فرنسا عام 1961 بحق متظاهرين سلميين جزائريين في باريس، أقر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الجرائم التي ارتكبت تحت سلطة قائد شرطة باريس، آنذاك، موريس بابون لا تغتفر للجمهورية.
رغم إقرار ماكرون، إلا أنه من المقرر أن تشهد باريس اليوم تظاهرة، دعا إليها حزب اليسار، لمطالبة ماكرون بالاعتراف بالمجازر بوصفها جريمة دولة وليس مجرد قمع وعنف للشرطة.
رغم أن ماكرون قد تجاوز باعترافه ما أقر به سلفه فرانسوا هولاند عام 2012 بقوله “إن المحتجين الجزائريين قتلوا خلال قمع دموي”، إلا أن ماكرون لم يقدم أي اعتذار رسمي يليق بأرواح الضحايا الذين قتلوا ورميت جثثهم في نهر السين بدم بارد، كما أنه لم يلق خطاباً عاماً أثناء زيارته الرسمية لإحياء الذكرى عند نهر السين بل اكتفى بوضع إكليل من الزهر والتقاط الصور التذكارية، وتكليف الإليزيه بصياغة بيان ووصف الجرائم التي ارتكبت تلك الليلة بأنها لا تغتفر.
حتى بيان الإليزيه جاء مخيباً للجزائريين وللذاكرة القديمة التي لا تزال مقيدة بمجازر الماضي، إذ لم يقل كل الحقيقة وجاء أقل بكثير مما توقعه الجزائريون كاستمرار في الإنكار، إذ اكتفى بالإشارة إلى مسؤولية موريس بابون عن القمع، فيما عجز عن إعلان أسماء بقية القتلة، كرئيس الوزراء آنذاك، أو الجنرال ديغول، أو حتى ذكر شرطة باريس. الأكيد أن القمع لا يمكن اعتباره نتيجة لتوجيهات بابون الذي لم يعتقل ويعذّب ويذبح وسط باريس من تلقاء نفسه، من دون علم الإليزيه.
حاجة الجزائريين إلى قول الحقيقة كاملة وإلى اعتذار رسمي من فرنسا عن جرائمها في بلادهم (1830- 1962)، مردها أنه حتى اليوم لا يُعرف عدد الجزائريين الذين قتلوا خلال مئات المعارك التي قاومت ضد الاحتلال، باعتبار أن فرنسا استحوذت على الأرشيف ولا تسمح لأحد بالاطلاع عليه.
ويأتي إقرار ماكرون على إيقاع أزمة متصاعدة سياسية ودبلوماسية بين الجزائر وفرنسا، وصلت إلى حدّ إغلاق الجزائر مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية، واستدعاء سفيرها في باريس في أكبر تصعيد بين البلدين منذ سنوات، وذلك على خلفية تصريحات لماكرون طعن في وجود أمة جزائرية قبل استعمار فرنسا للجزائر، ما أثار غضب السلطات الجزائرية.
وعليه، فإن إقرار ماكرون يأتي في محاولة لترطيب الأجواء مع الجزائر، فمن المعلوم للجميع أن عبور الطائرات العسكرية الفرنسية عبر الأجواء الجزائرية هو امتياز لن تفرط به باريس، خاصة أن التصعيد الجزائري اليوم يبعث برسائل سياسية عدة من شأنها التأثير على مصالح فرنسا ونفوذها في شمال إفريقيا.
لأكثر من 130 عاماً، كانت الذاكرة الجماعية الجزائرية المثقلة بالجرائم الاستعمارية المقترفة في بلادهم خلال حقبة قرن ونصف من الاستعمار، تعكر صفو العلاقات الجزائرية- الفرنسية، ناهيك عن خشية فرنسا الدائمة من توجه السلطات الجزائرية لتجريم الاستعمار الفرنسي وما ينجر عنه من تبعات قانونية على فرنسا التي أثبت التاريخ أن مجازرها حيّة في ذاكرة الشعوب ولا تموت بالتقادم.