لم يعد من المجدي الجدل بشكله الساخن حول أحقية “قصيدة النثر” بحمل هوية الشعر في ديوان العرب، فقد استطاع هذا النسق الفني فرض مصداقيته في عالم الشعر قبل أفول القرن العشرين بعقود، وكان مقياساً تنظيرياً ليس للذائقة الشعرية وحسب، وإنما للرؤية المعاصرة للمستجدات الطارئة بكامل تصنيفاتها المعرفية والواقعية، والتي رافقت أيام العرب في القرن المنصرم من دون أي تحفظ، وهذا السبب، مضافاً إليه عدم قدرتنا على الدخول في مشروع شراكة حقيقية مع الحداثة، كانا كافيين لإدخال الكائن البشري الذي يعيش في هذه البقعة الجغرافية في أنبوب تجارب أعطت نتائجه المخبرية واقعاً مشتتاً بين الوافد والأصيل، ولأن الوافد كان من القوة بحيث يصعب تجاهله أو تفاديه، فإن الأصل المعرفي، بما فيه الحساسية الشعرية الماضوية، قد صارا في مهب الريح، وبات التمسك بهذا الأصل يضيف أزمة أخرى إلى سلة الأزمات القادمة من الوافد
بعيداً عن المحاباة التقليدية في الجلسات العامة، فإن الأمر قد حُسم لصالح الوافد، بحكم دورة الحياة في تطلعاتها نحو التجديد الدائم ، وبات الحديث عن أحقية “قصيدة النثر” في امتلاكها لناصية الشعر العربي، أو عدم امتلاكها لهذا الحق، يشكل الوجه الأكثر وضوحاً في عالم الأزمات الفكرية المتمكنة من صلب رؤيتنا لمجمل الأشياء القسرية المحيطة بنا في الواقع، تلك الأشياء، والتي لن نتمكن من تجاهلها مهما حاولنا الابتعاد عنها، باتت تأخذ دور الوسيط المهيمن في ثقافتا المعاصرة، والمستقبلية، لدرجة الجزم بأن لا أحد ناجٍ منها، ولا نبالغ بأن التماهي معها صار بحكم المطلق، القادر على إنتاج الشيء ونقيضه في الآن معاً، وهذا ما جعل اجترار الحوارات، التي كانت قائمة في ما بعد الربع الأول من القرن العشرين، سارية المفعول في شرايين الرؤية النقدية العربية، والأجدر بنا أن نطلق الحوار من النقطة الأخيرة التي وصل إليها الشعر.. ولأن الشعر مازال هو المرتكز الأكثر صراحة، والأقوى، والأكثر شعبية في عالمنا المعرفي، والفني، فإن الحوار معه في الآن، يشكل حالة نقدية ، معرفية لكلّ ما حدث، وما يحدث من انتكاسات، وتطورات، وتقلبات، في الساحة العربية، مع مراعاة الاختلافات اللغوية في التنظير لكلّ نسق معرفي نابع من معطيات الواقع الذي نعيشه الآن.