عصر الشدّة العصبية، صار يبدأ باكراً مع طلوع فجر النهار!
لم تعد الأخبار البعيدة، التي تشكّل العالم أو تقرّب القارات المتباعدة، رهينةَ أخبار الراديو، في نشرات يبدأ تحريرها في السادسة صباحاً، هي موعد حضور المحَرِّرين إلى غرفة الأخبار، بعد انقطاعهم عن التحرير في منتصف الليل، فإذا سبقهم حدثٌ أضافوه بصفة: «خبر عاجل»! ثم واصلوا العمل على رأس الساعة.
مضى ذلك الزّمن غير البعيد عن معايشتنا، لكنه غدا من الذكريات في زحمةٍ عارمة من الأنباء التي لم تعد تحفل بشارةٍ موسيقية ولا بوسم محطة ولا بمن كانوا يُسمَّون الأغلبية الصامتة، لأن هذه الأغلبيّة صارت تتكلّم مع «الخبر» وقبل الخبر وبعد الخبر، ووسّعت مجالاته بلا حدود، ودفعت به دفعاً، في فضاء صار يوماً بعد يوم مثل بوادي هبوب الرّياح الرّمليّة!
لا خيار لابن العصر في انتقاء الأخبار! لا خيار لابن العصر في السيطرة على ردود أفعاله النفسيّة والعصبيّة حين تتدفق تحت بصره كلُّ صناعات منصّات التّواصل التي باتت إعلاميّة، لا تكفُّ عن الإعلام بمعنى الإعلام بالشّيء مع الإيحاء، فحين يدخل للبحث عن موضوع يهتم به، تسارعت العروض لإطلاعه على الجرائم الشاذّة، وموضوعات تشغل أهل واشنطن وموزمبيق ومانيلا والانتخابات في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا تجاهلها وفتح نافذة أخرى، وجد وفيَات لأشخاص سيثيرون عاصفةً من الانطباعات، ويحرثون الماضي بلا هوادة، حيث كانت هناك روابط غير مرئية بسبب وجودهم الاعتباري، وعلى ضفاف الموت ذاتها، سيتلقى نعيَ آخرين قريبين جدَّاً، كانت صفحة الوفيَات في الصحف تتولى أمرهم مقابل أجرٍ مدفوع لمؤسَّسة الإعلانات، أو ملصقات النّعي على الجدران، أو عبر هاتف أرضيّ، يُراعي صاحبُه توقيت الإخبار! وإذا أبعد عالمَ الموتى بلمسة، اشتدَّ أزيمٌ آخر يخصّ رغيف خبزه، ولقمة عيشه، وفوق ما يعاني سيجد متفرِّغين لإفراغ صبره وقدرته على استرجاع ثقافةٍ عاشها أجداده، وبها تجاوزوا الجائحات وأحسنوا التّعامل معها للحفاظ على البقاء! وسيجد أيضاً من يشكِّكه بكلّ القيم التي درَج عليها: الانتماء الوطنيّ، الصّداقة، تربية الأبناء، الشّكل الفيزيولوجي، أسلوب الغذاء، الأزياء الشخصية، ترتيب البيت، شكل الابتسامة، الذوق الفنّيّ المتعلّق بالغناء والدراما. كلُّ هذا يتمُّ نسفُه بلا هوادة ويعصف بالأذهان متجاوزاً فصول العواصف، حتى غدت صفةُ «عصر القلق» صفةً نموذجيّة، ستُفضي بسلاسة إلى حالة «التذمّر» الذي لا نجاة فيه لأحد مهما ناضل في السّباحة ضدَّ التيّار!
تهتف يمامةٌ حين يشقشق الفجر، وقد غادرت عارضةَ مظلّة القرميد متّجهة إلى ضوءٍ كاشف، وبين يديّ جهاز «الأهوال» الصّغير، فإذ بكل غيومه تتبدّد وتتبع ذلك الطائر الأنيس، إلى مطلع الشمس ونعومة الضّباب، والبحث عن الرّزق، أهمِّ ما يحتاجه الكائن الحيّ، وعبر التّداعيات، أتذكّر الرومانسيّة التي كانت دواء الإنسان الغريزيّ، أيّام اجتاح العصر الصّناعي المجتمعات البشريّة فلوّث ماءها وهواءها ونفوسَ أهلها أيضاُ!
ستبقى الطّبيعة ينبوع سلامٍ لا ينضب، لكن إلى متى؟