يحصلُ هنا في هذا البلد الأمين كما لو أنّ هناكَ خللاً في التركيز على الجوهري. يحصلُ أنَّ الكثيرين مشغولون بـ”النخّ” و”الدبيك” ولا أحدَ يُقدّرُ قيمةَ وعراقة العازفين. الكثيرون مشغولون بالأكل وابتلاع قِطع التحلية ناسينَ العريسَ “مزحوماً” في حذائه ومخنوقاً في ربطة عنقه فيما العروس تنوءُ تحت ثِقل مساحيق التجميل. الكلُّ يلهثُ وراء “الوِرثة” ولمّا تغادر روحُ الميت بعد أماكنَ ذكرياته وقلوبَ من يحبّونه.
ثمة خللٌ ما. كأنَّ هناك مَنْ يشاغلنا ويلهينا ويعبثُ بأحلامنا فيما هو يراكمُ ثروته ويوسّع أساطيل سياراته ويحدّث “آيفونه” بالنسخة 12 غيرَ عارفٍ بل غيرَ مكترثٍ بأن هناك فوارقَ حقيقية موجعة بين فقرٍ محظوظٍ يمشي على قدمين وفقرٍ تعيسٍ يمشي على عكّازين!
ثمّة خللٌ ما يطوفُ بيننا فيما فرسانُ العالم الافتراضي الهُلاميون يُدبِّجون قصائدَ ممسوخة تغنّياً بنهر بردى ورمزيته لكنهم في العالم الواقعيّ يغتالونه بالأوساخ ويتركونه ليتعفّن في روائحه.
ثمّة خللٌ ما حين تحتلُ مغنّياتُ الغفلة فضاءَ “التك توك” و”الإنستغرام” وتنكفئُ المغنياتُ الحقيقيات والشاعراتُ “الرسولاتُ بشَعْرِهنّ الطويل حتى الينابيع” لأنهنّ يعلمن أن للكلمة والموسيقا أثرُ الفراشة على وجه الغمْر.
كأنّ هناك خللاً جينياً في الضمائر. غِشٌّ في التعاطف إذ نربّتُ على كتفِ من أصبح “ترينداً” إعلامياً أو “هاشتاغاً فيسبوكياً” أو “موضة الساعة” وننسى مِنْ فرط الزحام الأخلاقي آلافاً من المهمّشين الذين يعيشون بيننا.
أخشى ما أخشاه أن يأتي علينا زمنٌ نصبح فيه مثلَ تماثيل الشمع في “متحف مدام توسّو” الشهير؛ أنْ نصبحَ كائناتٍ متحفية بلا حياةٍ ولا حياء.