عن الترجمة

يدلّني صاحب المكتبة على جناح الرّوايات المنضّدة على الرّفوف في عمقِ القاعة المعتمة ثمّ ينير المصابيح، وينصرف إلى زبائنه طالبي العناوين التي أعبر بها في الممرّات، مثقلةً بخوف أن أضطرَّ لقراءتها ذات يوم: سيَرٌ ذاتيّة لرجال سياسة، تواريخ الحروب البشرية، موسوعات عن الكواكب وعلوم الفضاء، علوم الإحصاء والسكّان، والتُّراث العويص، لكن حين أصل إلى “جناحي” المفضّل تتبدّل الرِّيحُ وينصرف الانتباه إلى الأغلفة وما عليها من لوحةٍ وعنوان فدار نشر!
يمرُّ صاحب المكتبة مع زبون وقبل أن يتجاوزني باتّجاه القبو حيث جناحُ كتبٍ مضاف، يسألني: عثرتِ على طلبك؟ فأنتظره لينهي دور الدّليل: أريد رواياتٍ مترجمة! سهلٌ عليّ أن أجد روايات عربيّة ولا أقلِّل قَطُّ من قيمتها، لكنني أريد تعويضَ عدمِ قدرتي على السّفر كما فعل الرحّالة أيام زمان! أريد أن أعالج عقدةَ نقص إلمامي بأيّ لغة أجنبيّة! أريد أن ألمس نسيج لغات المناطق الباردة، والدّافئة والحارّة، ففيها تكمن خصائص إنسانٍ غريبٍ عني ولا بدّ أنه عاش تجاربي نفسها لكنّه عبّر عنها بضفائرَ مجدولة من مناخ الطّبيعة التي عاش فيها، والقيم التي راكمها شعبُه، والأساطير التي نُسجَت في ثقافة تخصُّه، ليس فيها ليالي صحراويّة أو فيضان وغَيْضِ أنهارٍ كأساطيرنا!
قرأتُ الرّواية العربيّة، غثَّها وسمينَها وكنتُ كمن يتجوَّل في مدينته، لا يمكن أن يتوه فيها مهما تعدّدت شوارعها وتداخلت أزقّتُها، وازدحم سكّانها، بل حسبتُ أنني حين أقرأ روايةً مترجمة أطَّلع على “رؤيا” لا تتوفّر في رواياتنا، وما كنتُ أدرك أن هذه “الرؤيا” هي الاختلاف والمختلف! وبالتجربة الطّويلة التي تأسّست على رغبة ذاتية وضرورة مهنيّة، عرفتُ أن للترجمة، مبدعيها، الذين لا يقلِّون ألقاً عن الكاتب الأصليِّ، وهؤلاء المترجمون المبدعون ندرةٌ، تماماً كالرّوائيين والشعراء الكبار، وهم حين يمسكون الذّهب يحافظون على بريقه ويعالجون أدقّ ثناياه برفقٍ وعناية، بل ويستعيدون، وهم يترجمون، عافية لغتنا وجماليّاتها الفذّة!
آخذ روايةً جديدةً بكاتبها ومترجمِها، تغريني دار النشر باسمها الذي استعار أجملَ الأسماء مهابةً “المركز الثقافي” في العاصمة العربيّة الفلانيّة! ويا لبؤس الرّفيق الذي دفعتُ نقوداً لأصحبه وأستبقيه عندي مؤنساً وممتعاً! تلك الترجمة الحَرْفية مع الأخطاء اللغوية التي بلا تدقيق ولا حساب! تلك التي سمّتها مجامع اللُّغة بالأخطاء الشّائعة، المسموح بها للطّلبة في معاهد التّقويم قبل تصويبها، حدّث ولا حرج! ذلك النَّسْخ العجول للصّياغات الفرنسية الخاصّة بتصريف الأفعال، جاء في كلّ مفترق لأحداث الرّواية، حتى ضاع ماضي ومضارع العربيّة في أخبار كان وتشويش المعاني، وأسئلة مريرة، من نوع: كلّ فعل بشري يوضع له خطوط حمر، فلمَ لا يوضع لسويّة الترجمة مثلُ هذه الخطوط؟ وما موقف صاحب الرّواية ممن أساء إليها بهذه القصديّة والجرأة؟ وهل قوانين “السُّوق” مستباحة إلى هذه الدّرجة؟ نحن حين نتحدّث لغتنا التي اعتدناها كأنفاسنا، نضطر أحياناً لشرح روح معناها لمحدّثنا، حتى لا تأخذه إلى انطباعٍ خاطئ قد يفكّك العلاقة بيننا مهما كانت متينة، فكيف ونحن ننقل لغةً أخرى بمفرداتها وصياغاتها وظلالها؟؟

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار