عن لغزٍ مُحيّر
إن ما يجعل المثقف جديراً بقول كلمته أكثر من غيره؛ هو أن لديه شيئاً أصيلاً يقوله، أما المجالات التي يتضح أن الصحافي والخبير أو السياسي المحترف؛ يعرفون فيها ما لا يعرفه المثقف؛ فإن عليه فيها أن يلتزم الصمت.
هذا الرأي لصاحب كتاب “غواية البراءة” الفيلسوف الفرنسي (جكنرا)، والذي لم يمضِ الوقت طويلاً عليه.. فقد ذكره سنة 1996، في استطلاعٍ لمجلة (لير) الفرنسية، والتي استطلعت خلاله عدداً مُهماً من الفلاسفة والكتّاب الفرنسيين، حول سؤال: “هل مازال مثقفونا يصلحون لشيء؟!!”، ومن يقرأ ذلك الملف؛ لابد سيحضر إلى ذهنه عدد غير قليل من السوريين الذين ادعوا الثقافة حتى ابتذلت وانتهكت في براثنهم، ولابدّ لهذا المُتابع؛ أنه تمنى لو قرأ هؤلاء المثقفون ملف المجلة، لربما لم يوصلونا لهذا اللغز المُحير؛ وهو كيف لشاعرٍ ادعى الثقافة على مر عقودٍ؛ أن يصف مُجرماً قاتلاً ارتكب ما لم يتخيله عقل من فظائع بحق أبناء بلده، ويُشبهه بشخص وصل اليوم إلى رتبة “القديسين” بحالة الفداء التي عاشها، واستشهد في سبيلها، وأقصد بذلك (تشي غيفارا)؟؟
وفي ذلك الاستطلاع، يُضيف(جكنرا)، وإن المثقف لا يستمد الحظوة التي يتمتع بها، إلا من الكتب التي ينشرها أو من الأبحاث التي يشرف عليها، فهي وحدها التي تضفي عليه مشروعيته، لذا ينبغي له – تحت طائلة فقدان صدقيته – ألا يتدخل في الشأن العام إلا بعد روية ونظر، أما فيما تبقى من الوقت، فعليه أن يعتصم بمجاله وأن يلتزم دراسته وأشغاله.
وفي قسم آخر من الملف السابق ذكره؛ كانت هناك صفحات من كتاب “الإنسان المتغرب” للفيلسوف البلغاري الأصل، الفرنسي الجنسية (تودوروف)، في هذه الصفحات يحاول الفيلسوف المتعدد النشاط (فلسفة، ألسنيات، تاريخ،…إناسة) أن يعتمد خبرته الذاتية في تعريفه للمثقف الذي يرى إنّ: “العالم أو الفنان لا يكتفي بالانصراف إلى نتاجه العلمي أو إبداعه الفني – أي لا يكتفي بالمساهمة في تقديم الحق وازدهار الجمال، بل يشعر بالإضافة إلى ذلك أنه معنيٌّ بالخير العام..”، لكن تودوروف يحدثنا في كتابه عما يسميه (لغزاً)، حيث يقول: “في حين كانت البلدان الغربية قد انخرطت منذ مئتي عام على طريق الديمقراطية، وهي الطريق التي اختارتها أغلبية سكانها، نجد أن المثقفين الذين يشكلون من الناحية المبدئية القسم الأكثر تنوراً من السكان؛ قد مالوا إلى تبني الأنظمة العنيفة والاستبدادية، فلو أن حق التصويت اقتصر في هذه البلدان على المثقفين وحدهم؛ لكنا نعيش اليوم في ظل نظام توليتاري، ولم نعد في حاجة إلى التصويت أصلاً.
قدم ذلك الملف صوراً مختلفة، أو مقاربات مختلفة للمثقف، وعلاقته بالتاريخ والشأن العام.. لكن تودوروف لامس وبشكلٍ دقيق ليس مشكلة المثقف وعلاقته بالشأن العام فقط، وإنما مشكلة المثقف مع نفسه وحالة الفصام التي يعيشها.