الرواية استئناف ثقافيّ

تذهب الثقافة الغربية إلى أنّ الأصول الأقدم للفن الروائي في العصر الحديث تمثلت في الملاحم والأساطير الأوروبية القديمة, وما هو بمنزلة القارّ في معظم الدراسات العربية الخاصّة بالرواية العربية أنّها فنّ مقتبس عن الأوروبّيين بطريقة مباشرة، منذ منتصف القرن التاسع عشر. وأزعم أنّ نفي التأثّر العربي بالمنجزات الأوروبية في هذا السياق نفيٌ قائم على أسس تنفّجية وعصبوية يخالف المنطق، ويخالف سيرورة الثقافة الإنسانية التي تنفي إمكانيّة انحباس الثقافة الحيّة داخل أسوار مغلقة؛ فالثقافة بطبيعتها المتعالية على الإنغلاق، والمتعالية على التجسّد المادّي القابل للحيازة الخاصّة والتخبئة، لا تستطيع أن تعيش، ولا تستطيع أن تتجاوز تخوم الزمان والمكان من غير أن تتبادل شتى أنواع التأثّر والتأثير بالمنجزات القائمة في مختلف الأمكنة والأزمنة على حدّ سواء.
المهمّ في هذا الشأن أمران, يتمثّل الأوّل في أن تأثر الرواية العربية المعاصرة بالمنجز الأوروبي لا يحطّ من شأنها. ويتمثّل الثاني في وجود أشكال سردية عربية قديمة، وأخرى مؤلّفة باللغات الشقيقة للعربية أكثر قدماً. والصلات القائمة بين هذه الأشكال السردية (العربية والمشرقية) وبين الرواية العربية المعاصرة أقوى من الصلات القائمة بين الرواية الأوروبية والأشكال السردية الموجودة في الملاحم والأساطير الأوروبية القديمة, بما يمدّنا بإمكانية جعل الرواية العربية المعاصرة استئنافاً ثقافياً لأشكال سردية قديمة قائمة في إهاب الجغرافيا والتاريخ العربيين.
يذهب الظنّ والترجيح المعرفي إلى وجود فجوة زمنية تبلغ آلاف السنوات بين الثقافة التي أنتجتها الحضارات التي ازدهرت في الشام والعراق قبل الميلاد بما يربو على ألفي عام، وبين المنتج الثقافي باللغة العربية الذي ترجع أقدم أشكاله المعروفة في الجزيرة العربية إلى ما بعد الميلاد، بحسب المكتشف إلى الآن. غير أنّ إثبات الفجوة، وإثبات جسرها بالتواصل الثقافي عبر آلاف السنوات أمران لا يزالان ينوسان على أكفّ الترجيح ونفي الترجيح. ومع ذلك يؤكّد الباحث المصري نجيب البهبيتي أنّ النضر بن الحارث المخزومي (لا الثقفي كما أورده البهبيتي) الذي قيل إنه قُتل بعد أسره في معركة بدر وهُناك من المؤرخين من يُنفي القتل وأنه لم يقتل وإنما أصابته جراحة، فامتنع عن الطعام والشراب فمات, كان مثقّفاً كبيراً وكان يروي لأهل الحجاز في سياق عدائه الحادّ للرسول ملحمة جلجامش بعد نقلها من العراق، بالإضافة إلى محفوظاته من قصص الفرس والبيزنطيين، بما يعني نفي وجود الفجوة المفترضة بين ما كان منذ آلاف السنوات، وما أتى بعدها في السياق الثقافي الذي يقتضي جعل الرواية العربية المعاصرة شكلاً من أشكال الاستئناف الثقافي لما كان قائماً في المنطقة منذ آلاف السنوات.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار