كانت المظاريف الكبيرة الصّقيلة، إذ حُشيت بالورق، تبدو كالوسائد المحدَثة في منازل العصر، تتكدّس على أريكة دون أن تغري بنوم! وأيُّ نوم وذلك الورق ينتظر قراءة متأنية للمفاضلة بين حكاية وأخرى لترتقي واحدة منها فقط إلى المرتبة الذهبيّة وأخرى إلى المرتبة الفضّيّة وثالثة إلى المرتبة البرونزيّة؟ ثقافة ما، ابتكرت هذه التسميات للأعمال الفكرية، وربطتها بالمعادن التي تتفاوت هي الأخرى في قيمتها المنفعيّة!
عشرات القصص دخلت المسابقة السّنويّة لـ«وثيقة وطن» باسم «حكايتي» وحين يُفَضُّ الظّرف الذي استكانت فيه الحكايات، سيشعر القارئ أنه تجاوز عتبة معبد بعد أن خلع نعليه وبات تحت قُبّة عالية، يغمره الهدوء والصّمت! يخشخش الورق قليلاً قبل أن تبدأ رحلةُ العودة في الزّمان، والتّجوال في المكان، ونزعِ سدادات الذّكريات التي ظنّها غابت تحت طين الأختام! كلُّ كتّاب الحكايات كانوا لابثين عند أحداث عام 2012 حيث توقفت أعمارهم في الأهوال التي عاشوها وكانت قد بدأت قبل ذلك بعام، في غفلة منهم!
مرّت ساعات في مطالعة قصص أُغفِلت أسماؤها، من أجل موضوعيّة التحكيم، وارتدّ الزّمن بلا رحمة، إلى تلك الأيّام التي كنا شهوداً عليها، وها أنا أنفصل عن اللحظة الرّاهنة لأعيش مع المهجَّرين تحت جُنح ليل، وأرافق معلّمة في ريف دمشق تأخذ تلاميذها إلى الامتحانات فيوقفها إرهابيٌّ يتحدّث بعربيّة فصحى وبجواره ملثَّم من أبناء بلدتها، يملُّ من عنادها، فيقول لها: -هناك ينتظرك جيش النّظام لينتهك عِرضَك! انقلعي! وحين تصل إلى دمشق مع بضعة من تلميذاتها الشّجاعات، تصمّم على عدم العودة إلى قريتها حتى انتهاء الامتحانات كلها، إشفاقاً عليهن من حواجز الإرهابيين. تستأجر غرفة وتطلب مساعدات: أغطية وخبز ومعلبات، وتنتصر… وأنتقل مع عائلات تطلب السلامة، بعد حلول الإرهاب في البادية، فتقع ضحيّة مهرّبين يتركونها في البراري فريسة للبرد والجوع، وتكون لهم «أم أحمد» المسنّة الأبية بالمرصاد، تلمُّ أشتات الأطفال وتشدُّ أزر الخائفين وتحفظهم حتى طلوع النّهار… ومخطوفون يحرث عليهم الإرهابيون في حفر الأنفاق التي سيخرجون منها لقتل أهلهم، يستخدمون التّجويع والابتزاز لفكّ معتقَليهم من السجون، وبيدهم وسائل تكنولوجيا متقدمة، تضخّ الأكاذيب عبر تسجيلات للمخطوفين! وتلك المرأة العالقة على الحدود التركيّة، لا تني تتقدم من مخافر الإنكشاريين فتُردُّ بغلظة، ثم تعود على أنها مرافِقة لمريض، فتُردُّ بقسوة أشدّ، لكنها تدخل إلى سورية بعد أيام على طريقة: يا قاتل، يا مقتول!
تفتّحت «حكايتي» عن مئات الحكايا السّوريّة، الحارّة، الدّامية، الصّادقة، التي تكتب تاريخاً بلا رتوش ولا مونتاج ولا رقابة ولا وصاية ولا توجيه، إلا ما عاشه صاحبها وجهاً لوجه مع الحرب الإجرامية، يقاوم بكل ما أوتي من قوة ويقين وهو يعلم أن هناك جيشاً يصدُّ جحافل الغزاة والقتلة على الجبهات. هذه الوثائق هي نحن. هذه الوثائق هي سورية بذَهبها الثمين المصهور، حتى إن تحوّل إلى نثارٍ أو رقائق!