تُلِحُّ عليَّ في الآونة الأخيرة قصة ذاك الفلاح الذي كان يستقل يومياً القطار من ضيعته إلى المدينة، وفي كل مرة يحمل في يده كيسَ «خَيْش» ممتلئاً بأحماله، ولا تمر عشر دقائق إلا ويحرِّك محتويات الكيس، فتصدر أصواتاً مبهمة، ليست هديل حمام، ولا صياح ديكة، ولا مواء قطط، وصادف أن لاحظ عليه أحد ركاب المحطة التالية لضيعته ما يفعل، واعتراه الفضول الشديد لمعرفة ماذا يحوي ذاك الكيس، ولماذا يتكبَّد ذاك الفلاح عناء السفر اليومي إلى المدينة؟ فما كان منه إلا أن سأله عن السر الكامن بداخل كيس الخيش، فردّ عليه الفلاح بأنه يملأ أرضه بمصائد للفئران، ثم يجمعها لصالح مركز الأبحاث في المدينة، وحتى لا تفكر تلك الحيوانات بقرض الكيس والهروب، فإنه كل عشر دقائق يحركه بقوة، تشعر حينها الفئران بالخطر المحدق بها، فتهاجم بعضها لظنها أن أعداءها هم من حولها، وتنسى قضم الكيس، وهكذا.
ونحن الآن نعيش حياتنا قلقين كأن الريح تحتنا، مرّةً على طوابير الخبز، وأخرى في انتظار دور الغاز على التطبيق الـ(واي إن).. (way in) الذي لا يتناقص عداده إلا ما ندر، وثالثة في ترصُّد رسالة الرز والسكر، وأخرى في الانتظارات المديدة على محطات الوقود، وخامسة على بوابات النافذة الواحدة، وسادسة على طوابير الصرافات الآلية المعطلة في الغالب، وسابعة من أجل الحصول على قرض بشق الأنفس، وثامنة وتاسعة ومئة، وكأنه يُراد لنا ألا نهدأ إلى أنفسنا ونتحرر من أسر يومياتنا البائسة، بحيث يبقى تفكيرنا محصوراً بأن صحن البيض صار بـ4500 ليرة، و(تنكة) الزيت بتسعين ألفاً، وكيلو (وردات) الفروج بـ6200ليرة، مع أن أقصى آمالنا باتت بألا نعدم الوسيلة كي يأتي آخر الشهر ونحن بعيدون عن سياط التّجار وغيرهم من (صيارفة) دمائنا، و(سَدَنَة هيكل) لَحْمِنا، والمرابين بأرواحنا في كل لحظة، والذين يسعون ما استطاعوا لإبقائنا داخل كيس (الخَيش) لا أكثر.