هنيهةً كان سيقف على العتبة، قبل أن يحمل كُتبَه بغبارها الذي تراكم بلا رقابة، سنواتٍ، عدّت شهورَها وأسابيعَها صبراً مشبَعاً بالغضب والضّيق والملل والأمل الأعرج بأنّ كلَّ هذا سينتهي ذات صباحٍ بتوقيعٍ: انتهى الاحتياط! انتهى الاحتفاظ!
نافذة الخشب الصّغيرة كالطّاقة في بيت الجد، كانت،من دون أن يلحظ أبداً، قد أسلمت مصراعَها لرياحٍ كثيرة فانحنت مفصّلاتها الصّدئة بعجْزٍ محزِن حتى إنها لم تتأوَّه حين أراد إغلاقها على سبيل التّجربة، بل ذكّرتْه بالليالي الطّويلة التي كشفَت له، فيها، القمرَ هلالاً وبدْراً، وهو راقدٌ في سريره الحديديّ، دون مرَض، يسلِم رأسه إلى الوسادة القاسية وصوت أم كلثوم يصدح من المذياع ثمّ ينتقل إلى صندوقه الخشبيّ، خشنِ الزّوايا والمسامير والألواح، حيث يخبّئ مؤونتَه، يراوغ الفئرانَ والنّمل وكلَّ الحشرات النّاشطة حسب طبيعة الفصول، فيضيء لون الخشب الأخضر الكامد، مع رباعيّات الخيّام، التي تخرج من « صومعته» إلى الليل الواسع، حيث النّجوم والسّاهرون قريباً منه وبعيداً عنه! بلى! هنا كانت الصّومعة كما سمّاها رفيقُه المقيم في مهجعٍ، كان يشكو فيه من قلّة النّوم والاستخدامِ الجماعيّ لأدوات الطّعام، والتّنازع على ترتيب الأسرّة والبطّانيّات وجلْي الأوعية، وباب الصّومعة الذي دفعه بيده منذ دقائق، كان موارَباً بلا قفل، لكنّ قلبَه دقّ بعنف حين أصدر صريراً طويلاً، معاتِباً:- تركْتَ ورائي كتباً وملابس وأدوات وسخّانة آجُرّ ولم تفكّر بالعودة ولو لدقائق، لتأخذها إلى مقرِّك الجديد؟ وليت الأبواب تفهم ماذا تعني التنقُّلات بالأوامر الصّارمة، وها هو ينعم بمفاتيح سحرية، تذهب إلى الماضي، فإذ بنسائم نيسان تموج بعطر وشمس وشقائق نعمان على مدّ البصر! يجلس على طرف السّرير العاري، فتختفي النّوابض الصّدئة، وتظهر الوسائد التي كانت تتنقّل في صخب الرّفاق من ذراع إلى ذراع، وهم يلعبون الورق ويشربون المتّة، وينهض حين يرى في الزّاوية وراء السّتارة الممزّقة مرآةَ الحلاقة الصّغيرة التي أضاعها ولم تفلح جهود البحث عنها في العثور عليها، يقلّبها بين يديه، و يا للعجب كيف أصبحت صفحتها معتِمة زائغة كأنّها نسيج عنكبوت ترسم ملامحَ وجهه، التي تشبه مشاعره المرتبكة! إنّها ثماني سنوات! إنها عمرٌ، يشعر به الآن ينساب في الذّاكرة وفي النّفس والبدن والرّوح، وها هو يتدفّق في أعصابه جميعاً حارّاً، عصيّاً على الزّوال! يمسح المرآة بنعومة ورقّة، ويُغمض عينيه، لا ليكفكف الدّمعَ بل حتى لا يراه في المرآة التي فضحت أحزانَه ولم ترْقأ دموعَه!