لا تزال نظرية المحاكاة تتمتّع بقوّة متجدّدة بتجدّد العالم, لكنها عموماً فشلت في تلبية تطلّعات المبدعين إلى الخلق والابتكار. والقوّة المنسوبة إلى المحاكاة تستند إلى جملة من الأسس, في طليعتها أنّ البشريّة اعتمدتها منذ عهدها بإنتاج الفنون، وخصوصاً في التشكيل والأدب والتمثيل؛ ففي الأدب يسعى الأديب إلى التعبير عن نفسه وعلاقته بالعالم المحيط، واستمرّ الرسم والنحت بمحاكاة العالم المرئيّ آلاف السنين المعروفة من تاريخ البشرية، وفنّ التمثيل قائم أساساً على تقليد الآخرين, بالإضافة إلى استمرار عدد وازن من الأنشطة الفنّية في اعتماد مبدأ محاكاة العالم الواقعي, على عدد غير منتهٍ من الأسس؛ مستذكرين في هذا السياق محدوديّة الخيال البشري وعجزه عن ابتداع ما يخرج عن إطار التجربة الواقعية التي ينهل منها هذا الخيال؛ والمثال الأبرز قائم في قصص الخيال العلمي والأفلام السينمائية التي تتصدّى لخلق مختلف العوالم المتخيّلة القائمة خارج عالمنا الأرضي، وخارج نطاق المجرّة، بوصف الكائنات الفضائية ذات الأشكال العجيبة الغريبة مركّبة من عناصر أرضية مندرجة ضمن مدركات البشر، وكلّ ما يفعله الصانع أنّه يجمع عناصر متنافرة إلى عناصر أشدّ تنافراً، بالتضافر مع تضخيم عناصر معيّنة على حساب عناصر يجري تقزيمها، ليصير الكائن المصنوع خارج المألوف البشري بصورة كلّية.
وفي المقلب الداعي إلى نبذ المحاكاة, يجري إبراز الفنون التي تأسست منذ القديم على نفي المحاكاة كالموسيقا, والرقص الذي يبدو معتمداً بطريقة ما على المحاكاة حين يقوم الراقص بتقليد راقص أو أكثر, على غرار ما يجري في الاستعراضات الراقصة الكبرى؛ لكن الأساس الجمالي في الرقص قائم على ابتكار حركات للجسد البشري ليست معتمدة في السلوك المألوف للبشر. وفي تاريخ الفنّ التشكيلي الذي يبدو أكثر الفنون التصاقاً بمبدأ المحاكاة، يجري إبراز عدد من النقلات الكبرى الرامية إلى جعل العمل التشكيلي قطعة من الإبداع الصرف الذي يعتمد أساساً على إسقاط الواقع بوصفه مرجعية، ومن ذلك «تمثيلاً» فن الزخرفة العربية الإسلامية القائم على نفي المرجعية الواقعية التي لا تميزها العين إلاّ على سبيل الإيحاء والرمز الهندسي, كاعتماد العناصر النباتية وحدات متكرّرة في الزخرفة التي نراها موجودة بشكل كثيف في أيّ سجّادة متقنة الصنع. ويرى تاريخ الفنّ الصيني أنّ الفنّان لا يحاكي العالم المخلوق وإنّما يحاكي طريقة خلق العالم. وصولاً إلى «بول كلي» الذاهب إلى أنّ الفنان لا يرسم العالم المرئيّ وإنما عليه أن يجعل ذلك العالم قابلاً للرؤية.