البعيد جداً إلى حدّ الصمت
على ما يُروى عن الروائي البرازيلي باولو كويلو؛ إنه كان دائماً يُردد إن “الكتابة فعل اكتشاف” ومع ذلك هناك بعض الكتاب يلجؤون إلى النسيان من خلالها، أو من مبدأ أن الفن أو الثقافة هما فقط فكرة الكاتب عن الآخرين وتفاصيل حياتهم، اكتشاف العالم حولنا، فبعد أن صار اليقين في عالمنا محض سراب، سعى الكاتب إلى تأكيد وجوده في العالم.. أولاً من خلال الكتابة عن التفاصيل الحميمة والأشياء الخاصة التي تدل على وجوده، والتي يعني وجودها وجود هذا العالم، بل إن كويلو يؤكد إنّ: “النسيان هو الوجه الآخر للذاكرة عند الشخصيات، وعند الكاتب، والخوف من النسيان موجود دائماً يلاحقهم كل الوقت.. النسيان يلغي الحياة، ويلغي توازن الإنسان، ويعلن موته”..
من هنا؛ أثناء الكتابة؛ يمتلك الكاتب هاجس اكتشاف الذاكرة والحياة واللغة والأشياء؛ أسماءها وروائحها، فالإبداع والفن ليسا كتابة النسيان كما زعم البعض، بل كتابة الذاكرة..
الذاكرة الشخصية ربما التي هي ذلك المزيج الهائل من الأمكنة والأزمنة والناس والتاريخ.. الماضي والحاضر، وكل الأشياء، ونحن من جيل تجربته وأفكاره وخياله لم يفصل بين ما هو شخصي، وما هو جمعي، وربما يكون الأمر محض تشكيل ذاتي لدى الكثيرين.
والسؤال الذي يتجلى خلال كل محاولة كتابة؛ لماذا حين نكتب نحاول النسيان؟.. والجواب – ربما- أنه لا يزال الأدب لدى البعض صورة تجميلية للحياة ولذاكرتها، وكأننا أشخاص أدنى مرتبة من الثقافة، ولا يجوز عنها الكلام بصدق وحقيقة، ولا يجوز أن تكون مفردات حياتنا تحت نظرات الأعين… من هنا أيضاً فالإبداع كتابة ذاكرة واسعة تمتدُّ من الماضي البعيد مروراً بالحاضر إلى المستقبل-الحلم، ورسم تلك الحياة العريضة، وإدراك شخصيات متنوعة لدرجة أن تشبه تاريخاً بعينه. فالكتابة هي التي تذهب بنا الى البعيد جداً إلى حدّ الصمت.. أحياناً تكون غير محتملة، فكل شيء يأخذ معنى فجأة في علاقته بالمكتوب إلى درجة الجنون. وتقودنا إلى كتابة المروّع في الحياة إلى توثيق اللحظات؛ أكثر اللحظات حياةً، وأكثر اللحظات موتاً، وربما توثيق الحياة وبمعنى ما، توثيق الموت.. تقودنا إلى كتابة المروع فينا وحولنا، وهي بلا شك ليست تأملاً، إنها نوع من الملكات نحظى بها إلى جانب شخصنا، بل وموازية له.. إنها شخص آخر يظهر ويتقدم.. وغير مرئي على حدّ تعبير الروائية الفرنسية “مرغريت درواس”.