حين مرّ بي، توقّفْتُ مليّاً أمام «خفّة الكائن التي لا تُحتَمل» و«المزحة» التي بنى عليها حكاياتٍ روَتْها عدّة شخصيّات بطريقةٍ فريدة، وإلا ما كان له أن ينتحيَ مكاناً يُشارُ إليه بالبَنان بين الرّوائيّين الكبار الذين تكرّسهم دورُ النّشر، و«يطوّبهم» النقّاد، ويتابعهم القرّاء!
«ميلان كونديرا» صار مُرَحَّباً به عندي في معارض الكتب، وفي الشّذرات الصّحفيّة التي تذكره، فهو كاتبٌ معاصر، يتقدّم زمنيّاً على عمالقة الرّواية الرّاسخين، الذين لم تستطع الأزمنة إزالةَ البريق عنهم، والتعمُّقُ فيه يأتي تلقائيّاً بحكم حداثته، واهتمامِ المترجمين به، وغزارةِ إنتاجه، وأفكارِه التي كانت مثارَ جدل في الصّحافة بعيداً أو قريباً من رواياته «البطء» و«الخلود» و« الضَّحك والنِّسيان» و« الحياة هي في مكان آخر» وكانت سيرتُه الذّاتيّة تُسقِطُ أغلالها شيئاً فشيئاً: كاتبٌ تشيكيٌّ لكنّه بجنسيّة فرنسيّة وتخلّى عن لغته الأم ليكتبَ بالفرنسيّة، وبالتوغُّل في ماء البحيرة ستتظهَّر الصّورة أكثر: الكاتب غادر بلاده بعد انخراطه بحركة « براغ» وإخمادها في أعقاب دخول السُّوفييت تشيكوسلوفاكيا، واختياره باريس وطناً جديداً ثمّ تخلّيه عن لغته الأم وتبنِّيه لغةً أخرى، صار تعريفُه بعدَها الكاتبَ الفرنسيّ ذا الأصول التشيكيّة!
يبدو أن الكاتب لا يتغيّر، بل القارئ هو المتغيّر! « براغ»؟ هو فصل قديم حصل تقريباً في منتصف القرن العشرين في بلدٍ اشتراكيّ ضفافُه دولٌ رأسماليّة، فهل كان طقسُه كطقسِ «الفصل العربيّ» المشؤوم الذي استفرغَ روائيّين وروائيّات أشهروا أسلحةً ضدّ بلادهم، وباعوا أنفسهم وأقلامهم بأرخص الأسعار وتراكضوا إلى الأضواء والجوائز والتقاط الصّور مع مشغّليهم، رغم تواضع مواهبهم أو انعدامها، ولو كانت مراكبُهم تبحر في دماءِ أهلهم وهم يقبضون على سراب، وفي فوضى المصطلحات التي هزّت كلّ يقين وضرَبتْ كلّ ثابت بعد فصل الدّم، قرأتُ في «كونديرا »صفةَ الكاتب «اليساريّ» ولكم كانت هذه الصّفة، في خاطري، تعني إضافةً إيجابيّة تتّسم بحسّ العدالة والشّجاعة والانتصار للإنسان والانعتاق من الفكر الاستعماريّ العنصريّ، لكنّني لم أعثر عنده على ذِكْرٍ طيّب لبلاده، حينَ يذكر تلك البلاد التي ظنّ أنّه نفاها بترابها وحدودها ولغتها، بينما كان هو المنفيّ، وهي الباقية الثّابتة، إذ يقول في كتابه الذي سمّاه «لقاء» الذي جمع بين تأملاته وذكرياته (لننتبِه إلى توقفه مع الذكريات) إنّه اكتشف أن الأمّة التشيكية ليست خالدة وسيذوب وجودها الحضاريّ في قلب الإمبراطوريّة الرّوسية!
الزمن قال شيئاً آخر في وقائع التّاريخ، وفي رأيي بكونديرا أيضاً!