سحائب
عندما نحضرُ ملتقىً شعريّاً، أو نقرأ ديواناً ما، متى نقرر أنَّ هذا الكلام الذي نسمع أو نقرأ هو شعر، وأنَّ قائله أو كاتبه هو شاعر؟ على أيِّ مقياس يُقاسُ الشعر، وكيف يُعرف سيئهُ من رديئه؟ لعلَّ ذوي الذائقة الجمالية من كتّاب ومتلقّين يتدرّجون في التوصيف والحُكم من معتمدٍ على السبك والرويّ والموسيقا، إلى مستندٍ على مستوى اللغة والأداء، إلى باحثٍ عن الموضوع والمضمون وكيفية المعالجة ومدى فنيّتها وصولاً إلى الهدف ومدى الجدوى.
كلُّ هذه معايير تجدها في المحصلة، وإن قلّت أو كثرت نسبُ بعضها، واختفت أو بدت جوانب منها على حساب أخرى.. وقد تجتمع كلُّها عند من كان ميزانُهُ بالغ الدقة شكلاً ومضموناً.
ولعلَّ الشعراء الأكثر شفافيةً وأقوى شعوراً وأزكى إحساساً يقيسون الشعرَ على «الشعري»، فهم ليسوا ضد أي شكلٍ من أشكال الكتابة، وثمّةَ منهم من يرى أنَّ المتنبي وأبا تمام وأبا نواس وابن الفارض والحلاج، وأيضاً امرأ القيس وابن أبي سُلمى.. هؤلاء من الشعراء الحداثيين أكثر من شعراء حديثين عاشوا أو يعيشون بيننا الآن رغم أن نتاجاتهم جميعاً مكتوبةٌ بالشكل العمودي المتعارف عليه!
المشكلة تبدأ في أنه قد يكون هناك شاعر يكتب قصيدةً عموديةً مهمة، والآخر لمجرّد أنه لا يكتبها يقول عنه إنه شاعرٌ تقليدي ويبدأ بإطلاق أحكامه مستسهلاً القدح العبثيَّ الذي هو في المحصلة يذهب جُزافاً وهباءً، وكذلك يحصل في النثر والتفعيلة.. ولكن إذا كان هؤلاء لا يرغبون بهذا النمط أو ذاك فهل من حقهم التجنّي عليه، فهناك الآلاف ممن يتذوقون هذا النص «العمودي أو التفعيلة أو الخاطري» فعلامَ أفرض ذائقتي عليهم؟!
والمعادلةُ في ذلك بسيطة لمن يعقلها؛ إذ لكي يحترم الآخر نصي، عليَّ أنا احترام نصِّه مادام شعراً، وهذا لا يلغي التفاضل والتمايز قوةً وبلاغةً بين شاعرٍ وآخر ولكنَّ الطويّة الصادقة مشوبةٌ بملكات مواهب الأدب والفكر النيّر تكون للمنصف في أوّل المعايير، ويدوم الشعر بدوامها على رأي أبي تمام:
ولكنهُ فيضُ العقول إذا انجلتْ سحائبُ منهُ أُعقِبت بسحائبِ