الخيار الصعب
خريطة التحالفات الدولية -مع انحسار دخان الحرب العالمية الثانية وخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية- تتعرض اليوم لهزة عنيفة تصدّع العلاقات الهشة أصلاً التي ربطت الطرفين تحت ضغط عوامل عديدة منها الحاجة والخوف والهزيمة والدمار من جانب وسياسة الأمر الواقع الذي فرضته قوة الإمبريالية الأمريكية من جانب آخر .
خلال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية وحتى تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة كانت العلاقات الأمريكية- الأوروبية تعيش حالة من الاستقرار الظاهري تتولى فيه الولايات المتحدة مهمة القاطرة التي تسير خلفها باقي دول الاتحاد الأوروبي وخاصة الدول الكبيرة فرنسا وبريطانيا وألمانيا تنتهج حيال القضايا العالمية سياسة موحدة إلى حد كبير مع بعض التباينات البسيطة والتكتيكية وفي بعض الأحيان التذمر الخجول الذي كما يقال لا يفسد للود قضية.
ولكن منذ أن طرح الرئيس ترامب شعاره “أمريكا أولاً” وتخلى عن وظيفة القائد لصالح التاجر والإستراتيجية الأميركية التقليدية آخذة بالتآكل والانكماش شيئاً فشيئاً.
لم تستطع السياسة الأوروبية بكل دهائها إخفاء حدة التباينات التي ظهرت إلى العلن خلال السنتين الماضيتين وخاصة بين فرنسا وألمانيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى حيال مقاربة كل من هذه الدول للعلاقة الحالية والمستقبلية مع الدولتين العظميين روسيا والصين, والتحفظ الكبير من جانب فرنسا وألمانيا على سياسة العقوبات التي تنتهجها الولايات المتحدة بحق موسكو وبكين وأثرها السلبي الكبير على أوروبا التي تعاني من حالة ركود اقتصادي كبير غير معلن حتى الآن، لكن آثاره واضحة وجلية وبدأت تلقي بظلالها على القارة العجوز.
ما يؤكد هذه الحقيقة هي الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى أوروبا الشرقية والوسطى وخاصة دول التشيك وسلوفينيا وبولندا, وقبلها سحب القوات الأمريكية الموجودة في ألمانيا وإعادة تموضعها في بولندا اللاهثة خلف واشنطن والجاهزة لتنفيذ إملاءاتها بشكل أعمى.
بالمقابل لم يتأخر الرد الألماني بل كان أسرع من المتوقع حيث قام وزير الخارجية الألماني هايكو ماس بزيارة متزامنة إلى روسيا شدد فيها على أهمية العلاقات الروسية- الأوروبية وفائدة التعاون مع روسيا وانعكاساته الإيجابية ليس على أوروبا فقط بل على العلاقات الدولية على وجه العموم, الأمر الذي يعطي رسالة واضحة على أن السياسات التي كانت قائمة لفترة طويلة في طريقها إلى التفكك والزوال, وأن العالم الآن أمام خريطة جديدة من العلاقات التي تفرضها المعادلات الدولية المستجدة, وهنا لابد من التساؤل: هل دفعت الولايات المتحدة الأمريكية ألمانيا ومن خلفها فرنسا إلى الخيار الصعب وهو التوجه نحو روسيا مرغمتين أم إن ألمانيا وفرنسا تستقرآن ما ستؤول إليه الولايات المتحدة خلال المرحلة القادمة ففضلتا القفز من القارب الذي تعتقدان أنه يوشك على الغرق؟