“أوقعَ الضوءُ بيننا” كما يُسجّل منذر حسن في خامسته الشعرية

الحرية- علي الرّاعي:

“الوقتُ يمرُّ..

لا تذكّريه بنا؛

دعيه يمرُّ

كأنه لنا..”

في خامسته الشعرية؛ ينحتُ الشاعر منذر حسن، تركيباً لافتاً لعتبتها الشعرية، وأقصد بذلك العنوان، الذي لابدَّ أن يستوقف قارئ المجموعة قبل الدخول ليتساءل ولو لبضعِ الوقت: كيف للضوء أن “يوقع”، وهو المعروف عنه الكشف والتنوير، فكيف ألبسه الشاعرُ فعلاً مُضارعاً ، ثمّ ليزيد في أمر هذه اللفتة الشعرية ال(نا) الدالة على الجماعة التي ذيّل بها (بين)، فمن نحن المقصودة؟ هل يعني شلة الأصدقاء، أم يعني (أنا) الشاعر، و(أنا) محبوبته؟! أو التي يهفو قلبه إليها؟!

كلُّ هذه الأسئلة، لابدَّ سيجدُ لها القارئ فيضاً من الإجابات، والتي كثيراً ما تأخذه لمهبِّ أسئلةٍ كثيرة.. ذلك أن منذر حسن ليس بوارد أن يُعطي القارئ مفاتيح قصائده للمتلقي دون أن يتأكد من الأخير؛ إنه متحمس للسياحة في مناخات التأويل والتأمل.. فمنذر حسن، ومنذُ أولى قصائد المجموعة، يذهب صوب القصيدة الفكرة أكثر من أي اتجاهٍ آخر، محاولاً في مراتٍ كثيرة الاقتراب من الفلسفة حيناً، ومن الصوفية طوراً، لقول موقفه الشعري..

“الزّهورُ

حواسُّ قاصرة،

تتنكّر بأحلامها..

المسافات تنحسر..”

وقبل أن نلقي نظرة لمناخات ومضات منذر حسن الشعرية التي برع فيها، وكثفها كأقوال مأثورة، لا تحتاج لأية إضافات سوى ختامها بنقطة آخر سطر النهاية؛ سنعود لمفاتيح المجموعة الشعرية، وقصائده التي طالت للصفحة، او للصفحة وبعض الصفحة، ذلك إن قصائد المجموعة اتخذت مستويين من حيث طول القصيدة، وهي كما ذكرنا ناست بين القصيدة المتوسطة الطول، أو القصيدة الومضة، والتي رتبَ الخيرة كمجموعاتٍ مكثفة تتوالى تحت عنوانٍ واحد متقاربة في الشواغل الشعرية..

“وإذا قال لكم:

كانت الأشجارُ تُغنّي،

وكنتُ أعمّرُ بيتاً لها،

ورنت دمعةٌ على عينيه

صبوة الانتظار،

فلا ترقصوا على دمعه؛

اتركوه..

كان يأتي إليكم

مثل نايٍ حزين..”

بهذا النص، يفتتح منذر حسن بوابات مجموعته الشعرية، ب(أشياء تُشبه الحب)، تلك حكاية يرويها على لسان كائنٍ غائبٍ، بدا من الوصف كائناً متعباً ومكسوراً، ورغم ذلك بقي شفافاً ك(نايٍّ حزين)، فهو رغم كل آهاته وثقوبه، بقي يبعث اللحن الرقيق العذب، وإن كان حزيناً، إنه من الحزن النبيل والجميل الذي لا يُقاوم..

ربما سيتساءلُ قارئٌ ما، لهذا النص؛ عن ماهية هذا الكائن الذي يصفه الشاعر بضمير الغائب، والمقتطف من حقول التراجيديا، كما تقطف سنابل القمح دون أن نعلم شيئاً عن عذابات المنجل.. صحيحٌ لا نعرف اسماً أو هيئةً واضحة لهذا الكائن التراجيدي، غير أنه في ختام النص، وبهذا السكون الطويل، وبالتأمل قليلاً، سرعان ما يدلنا الشاعرُ إليه.. إنه (نحن) جميعاً، تلك الكائنات المسلوبة السند، التي تهرب منها الجدران، فلا تجد ما تسندُ إليه ظهرها، لكنه الكائن الذي يصرُّ أن يستمدَ من الضعف القوة، ولو بلحنٍ حزين!!

“غداً

ستلتقيان كصديقين قديمين؛

أعرفكما جيداً،

كنتُ أحدكما

على قارعة الطريق..”

يستثمر الشاعر في (أوقعَ الضوءُ بيننا) الصادرة عن دار بعل بدمشق مؤخراً، معظم جماليات قصيدة النثر، ومختلف فضائل الأدب الوجيز.. تلك الجماليات التي مُنحت للشاعر المعاصر كتقنيات في صياغة النص وصناعة الدهشة، سواء تجلى ذلك في وحدة النص، وتماسكه، أو تقنياتٍ أخرى مثل: الإخفاء، والإضمار، وهو ما تلمسناه في قراءة النص الأول من المجموعة.. ومن ثمّ التكثيف الذي يقول الدفقة الشعرية كاملةً دون عناء البحث عن “بيت القصيد”، وإنما النص بكامله شكّل مثل هذا (البيت)، ودفعةً واحدة..

“مثل كلِّ عامٍ؛

لم يُبدّل الربيعُ من عاداته،

لم يتبدّل شيئٌ

سوانا”..

لجأ الشاعر كذلك إلى تقنيات أخرى امست اليوم من ملامح قصيدة النثر منها: الانزياحِ عن اللغةِ النثريةِ العاديةِ، والذي منحه أن يُحدث الدهشة بين توقعاتِ المتلقي ومقولات النصِّ، وعلى ما يرى الكثير من النقاد في قراءة هذه التقنية؛ إنه كلما كانت الفجوة بين الأمرين السابقين أكبر،َ كانت الشعرية أعلى، ثم يأتي (التكثيف)، وهو أكثر ما تجلى في نصوص المجموعة، في المستوى الثاني من النصوص، التي دخلت في مناخات الأدب الوجيز، وهي تكاد تستحوذ على نصف نصوص المجموعة، هنا حيثُ نضغطُ المعاني العريضةَ في ثوبٍ صوتيٍّ ضيقٍ جداً، فالشعر اليوم لا يحتمل الإفاضة ولا المناحة على الطلال، وإنما هو كما يوصفونه: ” عطرٌ لغويٌّ مركّزٌ “، أو (أصنص لغويّ)..

“يقولُ السّيلُ:

أنا الماءُ والغيمُ والمطرُ..

ولم يترك شيئاً

لم يقلهُ!!”

ومن ملامح النص عند منذر حسن، كان “الإفادةُ”، وهي التي يوصفها نقاد قصيدة النثر بالاستفادة من طاقةِ الثقافةِ كتوظيفِ الأساطير و الحكايات و الرموز، وكذلك منجزات العلم والفلسفة بعد تذويبها في اللغة الشعرية، وهو ما تجلى أو نفذ إلى ملمحٍ جمالي هام جداً، وهو (الحكائية)، والتي ظهرت في نص منذر حسن، بالشغل على (الحدث) والإخبار، وكذلك الإكثار من استخدام

الأفعال، لاسيما الفعل المضارع، وبرز ذلك حتى في العنوان الأول (أوقعَ الضوءُ بيننا)، عندما اختار جملةً فعلية لتكون عنوان المجموعة.. الحكائية الآسرة التي يبني من خلالها النص الشعري، فلا معنى اليوم لنصٍّ لا حكاية فيه، الحكائية التي كادت أن تلغي الفواصل بين الأنواع الإبداعية الجديدة، لاسيما في مناخات الأدب الوجيز، ولننظر للنص التالي الذي يتحدانا أن نصنفه في نوع معين، وهو ينوس بين القصة القصيرة جداً، والقصيدة الومضة..

“الصبيةُ

الذين كانوا في الجوار؛

أقسموا بثيابهم الممزقة،

أنهم رأوا شخصاً بلا ملامح،

ولم يفلحوا

بمعرفة أيّ شيءٍ آخر..”

ومن خلال التركيز “على التجربة الذاتية العميقة” للشاعر، باعتبار إنّ الشعر همٌّ شخصي يعني الآخرين، وهذه من سمات (الأنا) المتماهية مع الآخرين، حيث التراجيديا تكاد تكون هي شواغل الجميع، والشعار وحده من استحوذ على ملكة التعبير ليكون لسان حال نفسه والآخرين، ولأنها أيضاً هي هنا أساسُ الصدقِ الانفعاليِّ، وحسبُ النقاد؛ إنه كلما كان انفعالُ الأديبِ صادقاً أصابَ المتلقيَ بالعدوى الشعوريةِ.. هذه الانفعالات التي تبدو عميقة بحيث من النادر أن يجمعها عنوانٌ من كلمةٍ واحدة، حيث جاءت العناوين بعكس النصوص الوجيزة المكثفة، عناوين غالباً ما يقطفها منذر حسن (جملة فعلية) من غصنٍ ما من على شجرة القصيدة نفسها، فهو قليلاً ما يلجأ أو يندر أن يعنون نصّاً بكلمةٍ واحدة – كما جرت العادة عند شعراء قصيدة النثر – ربما تكون غايته إعطاء حالةٍ من الشعور من (الان وهنا) وطزاجة النص الحاضر بالفعل المضارع، وشيءٍ من وحدة النص التي تبدأ من العنوان إلى الخاتمة دفقةً واحدة، وذلك دون أن يسمح ل(المكتوب) أن يُقرأ من عنوانه..

“شجرةُ التّفاح

تلك؛

تُعِدُّ قناني

وتومئ للعطرِ أن يقترب..”.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار